بقلم الأب الياس شخطورة الأنطوني
الفاتيكان، الجمعة 30 مارس 2012 (ZENIT.org).-تعابير عديدة وعبارات مختلفة يُستعان بها للكلام عن الرؤية الروحية أو الداخلية التي تُمَكّن الإنسان التقرُّبَ من الله ومن حضرته الإلهية، كاستعمالِ افرام في أناشيده عن الصوم لمرادفات عديدة تعكس هذه الحالة الالهية في الانسان: “العين المجردة، “العقل”، “العين الخفية” و”عين العقل”… كلُّها مفرداتٌ تسهم في الدلالة على الرؤية الروحية التي تسمح للإنسان برؤية صفات ورموز الله الخفية عن العين الطبيعية. ما هي علاقة الفعل الروحي في رؤية الله مع الفعل الجسدي في الإمتناع عن الطعام في صومنا؟
لا بُد من التشديد أولا على أن العلاقة ما بين الصوم والروحانية لا ينبع من الإختلاف او المعاكسة ما بين “الجسد” و”الروح“، ولا حتى من فكرة كون الجسد “مقبرة الروح“، إنما من واقع الإنسان الأساسي، ما بين سقطته وخلاصه. فأفرام حريص على إظهار أهمية العالم الطبيعي، فهو من صُنْعِ يديّ الخالق، جابلِ الإنسان. هذه العلاقة -الصوم والروحانية- قائمة على الحدث الكتابي المُعرّف عنه في سفر الخروج، ألا وهي حقيقة وواقع آدم وحواء في الجنة المُعبَّر عنها في أناشيد افرام باستعماله الأضداد ما بين الأمور الحسّية وتلك الروحية، ما بين العالم الدنيوي والعالم السماوي، كاستعماله فعل “طهّر” أو “نظّف” للدلالة على فكرة اللاطهارة أو الخطيئة، أو في إستعماله كلمة “البكر” للدلالة على الخلاص بواسطة المسيح المنتصر على الشر. ففي النشيد الأول من الصوم يقول:
“ها هو الصّومُ المُعَظَّم الذي أَشرَقَ مِن البِكرِ ليُعَظِّمَ المُتواضعين، فَالصومُ سَببُ ابتهاج للعَاقِلينَ، يرى كَم أن ذلِكَ يَرفعُ من شَأنِه، فَالصومُ يُطَهِّرُ النَفسَ سِراً لِتَتأَمّلَ بالله وَلِتََتعاَلى برؤيَتِه، لأن الثِقلَ الذي يَربِطُها في الأرض يَشدُّها نحو الأرض. مُباركٌ مَن وَهبنَا الأصوام أَجنحَةً نقيةً بِهَا نَرتَفعُ نَحوه“.
إن الطهارة تُسَهِّلُ وتَجذُبُ الى رؤية الله، إنها عامل اساسي من مكونات الصوم في تطهير الروح أو الرؤية الداخلية، ذلك بسبب فعل الخطئية الذي يُظلم هذه الرؤية على الإيمان، وهو ما يتوضح لنا جليا في هذا المقطع لمار افرام:
” بَهيٌ هو الصوم ومُفيدٌ للذي يَتَنَقَى بُغية التَّأمُلِ بالله. لا يُمكنُ لإنسانٍ مُضطرِب لأي عِلةٍ كان اضطرابُه أن يَعتبِرَهُ نَقي. مَن يَملِك عَيناً نَقياً يُمكنُه التأَمُلَ بِه بِمقدارِ ما أُعطيَ مِن نَظَر. بَدَلَ تَطْهِيرِ الخُمورَ فَلنُطَهِرَ الضَمَائِرَ لنَستطيعَ رؤيةَ النَقي الذي بالصومِ غَلبَ الشريرَ مُقلق الكل “.
بإمكان الرؤية الروحية التبصر في الأمور الروحية السلبية وإظهارها للعلن، مما يساعد الصائم على التمييز ليس فقط في الأمور الظاهرة والحسّية، إنما أيضا بالأساليب الروحية الخاطئة التي تمنع التقرب من الله وتؤذي الروح موهمَةً إيّاها بأنها صالحة لبنائها، يقول أفرام:
” لأن العَدوَ خَفيٌ فلنُنَقي ضميرَنا ليَرى بأنّنا رَأَينَاه، إلى أؤلئك الذي يَراهم ولم يرَوه يَستطيعُ سَرِقَتَهُم. عندما تَستَسلمُ النفسُ للصوم، يَتمَلَّكُهَا ويَتّخِذُهَا صَديقةً له. إن العينَ بين أمواجِه تَتَنَقى لِتَتَأمَّلَ من أين تَأتي السِّهامُ الحادةُ الخفيةُ عن الناظرين“.
إن دراسة قصة الخلق في سفر الخروج دفعت بأفرم الى مقارنة حالة “آدم” بحالتنا، فما حصل لآدم هو معاكس بنتيجة خبرته لحالتنا، نراه يوضحه في نشيده السادس عن الصوم ( المقطع 6 و7):
آدم نحن
لآدم فَتْحُ عينَيه شكّل له ضررا لنا شكّل بهجة
الشيطان فتح له عينيه لنا أغلقهم
فرأى عاره فلن نرى عارنا
الله أغمض عينيه لمساعدته الله فتح أعينَنا لمساعدتنا
الشيطان خدع آدم الشيطان أغوانا
من خلال هذه المقارنة لأب السريان، يظهر لنا آدم ممثل البشرية عامةً، فما حصل لآدم عند نشأة هذا العالم حصل للبشرية أيضا، وقد فسّر ذلك أفرام بالصورة التي أعطاها عن فتح عيني آدم وإغلاق عيني البشرية. فقط مع المسيح، آدم الثاني، الذي جُرّبَ في بداية العهد الجديد، كآدم الذي جُربَ بداية العهد القديم، تُقلب الأدوار، أي مع آدم سقطت البشرية جمعاء تحت وطاة الخطيئة أما مع المسيح فتَمَّ الخلاص للعالم بأسره من على خشبة الصليب، وحيثما فشل آدم في صومه بإمتناعه عن لمس شجرة معرفة الخير والشر، نجح المسيح بالصوم في إسقاط سلطان الشيطان في حقل تجاربه الثلاث، فبواسطة المسيح تتوضح رؤية الإنسان الروحية وتترمم. لا يمكننا نكران الدور الكبير الذي لعبه آدم وحواء في عدن في تأسيس مبدأ الرؤية الروحية، فمن خلال تعدد الأضداد ما بين زلّة الإنسان من جهة وخلاصه من جهة أخرى والتي اسهمت في تشويه الرؤية الروحية، لا بد من إعادة تأهيل هذه الرؤية وصيانتها من خلال إنسان كامل، ألا وهو المسيح، آدم الثاني.