روما، 27 يناير 2007 (ZENIT.org). – ننشر في ما يلي النص الكامل للعظة التي ألقاها البابا بندكتس السادس عشر  أثناء صلاة الغروب المسائية في بازيليك القديس بولس خارج الأسوار في اختتام أسبوع الصلاة لأجل وحدة المسيحيين في الخامس والعشرين من يناير 2007.

أيها الإخوة والأخوات الأعزاء!

لقد تضاعفت، في مختلف الكنائس والجماعات الكنسية في العالم أجمع، خلال "أسبوع الصلاة" الذي نختتمه الليلة، الصلاة المشتركة إلى الرب من أجل وحدة المسيحيين.

وقد تأملنا سوية في كلمات إنجيل القديس مرقس التي تمت تلاوتها منذ قليل: "جعل الصم يسمعون والخرس يتكلمون" (مر 7، 37)، وهو الموضوع الكتابي الذي عرضته الجماعات المسيحية في جنوب إفريقيا. إن حالة التمييز العنصري، والفقر والنزاع، والاستغلال والمرض، والألم التي يعانونها، ولعدم تمكنهم من إفهام الآخرين عوزهم، تتولد فيهم الضرورة للإصغاء لكلمة الله وللتكلم بشجاعة.

أن يكون المرء أصم ومعقود اللسان، أي انعدام إمكانية الاصغاء والكلام، أليس ذلك علامة نقص في الشراكة وعارض انقسام؟ فالانقسام وعدم التواصل، الذين هما نتيجة الخطيئة، يعارضان مشروع الله.

قدمت لنا إفريقيا هذه السنة موضوع تأمل عالي الأهمية دينيًا وسياسيًا، لأن "الكلام" و "الإصغاء" هما شروط أساسية لبناء حضارة المحبة.

الكلمات "جعل الصم يسمعون والخرس يتكلمون" هي بشرى سارة تعلن مجيء ملكوت الله والشفاء من عدم التواصل ومن الانقسام. ونلتقي بهذه الرسالة في تعاليم يسوع وأعمالها كلها، وهو يعبر في القرى، والمدن والجبال، وحيث كان يمر "كانوا يضعون المرضى في الساحات ويرجونه أن يسمح لهم أن يلمسوا ولو طرف ردائه؛ وكان الذين يلمسونه يشفون" (مر 6، 56).

يأتي شفاء الأصم المعقود اللسان، الذي تأملنا به في الأيام الماضية، بعد أن كان يسوع قد ترك نواحي صور واتجه نحو بحيرة الجليل، مرورًا بـ "المدن العشر"، وهي رقعة متعددة الثقافات والأديان (أنظر مر 7، 31). وهي حالة ترمز بشكل كبير إلى واقعنا الحالي. وكما في الأماكن الأخرى، كذلك في المدن العشر، يقدمون ليسوع رجلاً مريضًا، أصماً يعاني من مشاكل في الكلام (moghìlalon) ويرجونه أن يضع يديه عليه. يسألونه بركة، أي تدخلاً عجائبيًا، لأنهم بعتبرونه رجل الله. ويقود يسوع الأصم المعقود اللسان بعيدًا عن الجمع، ويقوم بأعمال ترمز إلى اللمسة الخلاصية – يضع إصبعه في أذني الأصم، ويلمس بلعابه لسان المريض – ثم، يرفع عينيه إلى السماء ويأمر: "انفتح!". وينطق بهذا الأمر بالأرامية: "إفّتح"، التي هي على الأرجح لغة الحاضرين ولغة الأصم المعقود اللسان، ويترجم الإنجيلي الكلمة إلى اليونانية (dianoìchthēti). تنفتح أذُنا الرجل وتنحل عقدة لسانه: "فتكلم بلسان طليق" (orthōs). وأوصى يسوع أن لا يتحدث أحد عن الأعجوبة. ولكن كلما أكثر من توصيتهم "أكثروا من إذاعة خبره" (مر 7، 36). وهنا يأتي التعليق الرائع من قبل الذين شهود والذي يؤلف صدى لتعليم آشعيا حول مجيء المسيح: "جعل الصم يسمعون والخرس يتكلمون" (مر 7، 37).

إن التعليم الأول الذي نستخلصه من هذا الحدث الكتابي، والذي يستعمل في طقس العماد، هو أنه، من المنظار المسيحي، الأولوية هي للإصغاء. فبهذا الصدد يقول يسوع صراحة: "طوبى للذين يسمعون كلمة الله ويعملون بها" (لو 11، 28). لا بل يقول: "هناك أمر واحد ضروري" (لو 10، 42): الإصغاء للكلمة. وهذا أمر أولوي من أجل نشاطنا المسكوني. فلسنا نحن من نحقق أو ننظم وحدة الكنيسة. الكنيسة لا تكوّن نفسها بنفسها، بل من خلال الكلمة التي تخرج من فم الله.

إن الإصغاء سوية لكلمة الله؛ ممارسة القراءة الإلهية (lectio divina) للكتاب المقدس؛ الدخول في الدهشة أمام جِدَّة كلمة الله، التي لا تَعتق ولا تتلاشى أبدًا؛ تجاوُز صممنا نحو تلك الكلمات التي لا تنسجم مع أحكامنا المسبقة ومع آرائنا؛ الإصغاء لأولئك الذين درسوا كلمة الله قبلنا، ودراستهم لكي نتعلم منهم ولكي نقرأ بالتالي الكتاب المقدس في هذا التقليد العريق والغني من الإصغاء؛ كل هذا يشكل مسيرة يجب القيام بها للوصول إلى الوحدة في الإيمان، كجواب على الإصغاء للكلمة.

فمن يضع نفسه في موضع الإصغاء لكلمة الله يمكنه، بل يجب عليه أن يتكلم وأن يعلنها للآخرين، للذين لم يسمعوها أبدًا، أو للذين نسوها ودفنوها تحت أشواك الهموم وخداع العالم (أنظر مر 13، 22). يجب أن نسأل أنفسنا: نحن المسيحيين، ألم نصبح مبالغين في الصمت؟ ألا تنقصنا يا ترى الشجاعة لنتكلم ونشهد كما فعل أولئك الذين كانوا شهودًا لشفاء الأصم المعقود اللسان في المدن العشر؟ إن عالمنا بحاجة لهذه الشهادة؛ وينتظر فوق كل شيء شهادة مشتركة من المسيحيين. طبعًا، لا يمكننا أن نفرض الوحدة بالقوة؛ فهي أمر يجب أن يبنى على الاشتراك في الإيمان الواحد. الإصغاء والكلام، فهم الآخرين وإعلان الإيمان، هي كلها أبعاد جوهرية في العمل المسكوني. يشكل الحوار الصادق والأمين الوسيلة المناسبة التي لا غنى عنها في العمل من أجل الوحدة.

وقد سلط المجمع الفاتيكاني الثاني الضوء على هذه الحقيقة، وهو أنه إذا يتعارف المسيحيون بين بعضهم البعض، ليس ممكنًا تخيل أي تقدم على طريق الوحدة. ففي الحوار يجري الإصغاء والمشاركة؛ المقابلة، وبنعمة الله التقارب حول الكلمة وتقبل مستلزماتها، التي تنطبق على الجميع.

وقد رأى الآباء المجمعيون  في الإصغاء والحوار، ليس مجرد ضرورة مرتبطة حصريًا بالحوار المسكوني وحسب، بل أضافوا أفقًا متعلقًا بالكنيسة الكاثوليكية نفسها: "من هذا الحوار – يقول النص المجمعي – سيظهر بوضوح موقع الكنيسة الكاثوليكية الحقيقي" (Unitatis redintegratio, 9). لا يمكن الاستغناء عن "عرض العقيدة كلها بوضوح" من أجل حوار يواجه ويناقش ويتخطى وجهات النظر المختلفة التي ما زالت قائمة بين المسيحيين، ولكن في الوقت عينه "لا يمكن بأي شكل، أن يكون أسلوب وكيفية إعلان الإيمان الكاثوليكي عائقًا أمام الحوار مع الإخوة" (المرجع نفسه، 11). يجب أن نتكلم بشكل جيد (orthōs) وبشكل مفهوم. ويتطلب الحوار المسكوني الإصلاح الأخوي الإنجيلي ويقود إلى غنى روحي متبادل من خلال الاشتراك في خبرات الإيمان والحياة المسيحية الأصيلة. ولكي نتوصل إلى هذا، يجب أن ندعو بإلحاح ودون هوادة عون النعمة الإلهية ونور الروح القدس. هذا ما فعله المسيحيون في العالم كله خلال هذا "الأسبوع المميز"، وسيفعلونه خلال التساعية التي تسبق عيد العنصرة، كما ويفعلونه في كل فرصة سانحة، رافعين صلاتهم الواثقة لكي يصبح تلاميذ المسيح واحدًا، ولكي، عبر الإصغاء للكلمة، يتمكنوا من إعطاء شهادة متناسقة للعالم في زمننا المعاصر.

في هذا المناخ من الشراكة المكثفة، أود أن أوجه للجميع تحية قلبية: إلى الكاردينال رئيس كهنة هذه البازيليك وإلى سائر الكرادلة، إلى الإخوة في الأسقفية وفي الكهنوت، إلى الرهبان البندكتيين، إلى المكرسين والمكرسات، إلى العلمانيين الذين يمثلون الجماعة الأبرشية في روما. وبشكل خاص أود أن أحيي الإخوة من الكنائس الأخرى ومن الجماعات الكنسية الذين شاركوا في هذا الاحتفال، مجددين التقليد الهام في نهاية "أسبوع الصلاة" هذا، في اليوم الذي نذكر فيه توبة بولس البراقة على طريق دمشق.

يفرحني أن أشير إلى أن ناووس رسول الأمم، الذي نتواجد الآن بقربه، قد أخضع مؤخرًا لدراسات ولأبحاث، وكانت الإرادة بعد هذه الدراسات أن يصبح مرئيًا، من خلال تغيير في المذبح الرئيسي. أعبّر عن تهاني الحارة على هذه المبادرة المهمة. وأسلم لشفاعة القديس بولس، البنّاء الدؤوب لوحدة الكنيسة، ثمار الإصغاء والشهادة المشتركة التي سنحت لنا الفرصة أن نختبرها في لقاءات الأخوّة والحوار العديدة التي عشناها في سنة 2006، إن مع الكنائس الشرقية أو مع الكنائس والجماعات الكنسية في الغرب. تمكنّا في هذه الفرص أن نلمس فرح الأخوّة، مع الحزن الناتج عن التوترات التي لا تزال سائدة، محافظين دومًا  على الرجاء الذي يفيضه الرب في قلوبنا.

نشكر جميع الذين ساهموا في تكثيف الحوار المسكوني  بالصلاة، وبتقدمة آلامهم وبعملهم الدؤوب. ونرفع الشكر فوق كل شيء إلى الرب يسوع المسيح على كل شيء. فلتجعل العذراء مريم أن يتحقق بأسرع وقت ممكن شوق ابنها الإلهي إلى الوحدة: "ليكونوا واحدًا... حتى يؤمن العالم" (يو 17، 21).

 

ترجمة وكالة زينيت العالمية (zenit.org)

حقوق الطبع 2006- مكتبة النشر الفاتيكانية