خطاب البابا إلى المحكمة الكنسية الرومانية

الفاتيكان، 29 يناير 2006 (Zenit.org). – في إطار الأزمة التي تعصف بالمؤسسة الزوجية، تحدث البابا بندكتس السادس عشر عن الترابط الموجود بين الطابع القانوني والطابع الحميمي في الزواج.

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

استقبل البابا أعضاء المحكمة الروحية الرومانية، بمناسبة افتتاح العام القضائي في قاعة كلمنتينا نهار السبت الماضي. وبعد كلمة الترحيب التي عبّر البابا فيها عن تقديره للعمل الدقيق الذي يترتب على العاملين في المحكمة الروحية القيام به، تحدث البابا إلى الحاضرين عن موضوع الزواج. في ما يلي كلمات الأب الأقدس بندكتس السادس عشر:

 

“السنة الماضية، في لقائي الأول معكم، حاولت أن أبحث عن السبل الناجعة لتخطي التناقض الظاهري بين عملية إظهار بطلان الزواج والحس الرعوي الأصيل. في ذلك الإطار، تبين لنا أن حب الحقيقة هو نقطة الالتقاء والاتفاق بين البحث القضائي والخدمة الرعوية للأشخاص.

ولكن لا يجب أن ننسى أن في دعاوى بطلان الزواج، تتطلب حقيقة المجريات القضائية “حقيقة الزواج” نفسه. للأسف، يبدو أن مفهوم “حقيقة الزواج” إنما يفقد قيمته الوجودية في محيط ثقافي مطبوع بالنسبية والوضعية القضائية، اللتين تعتبران الزواج كمجرد شكلية اجتماعية لرباط عاطفي. وبالتاي، يصبح الزواج عارضيًا كما هي الحال مع العواطف البشرية، لا بل يبدو وكأنه هيكلية قانونية تستطيع الإرادة الإنسانية أن تتلاعب بها على هواها، مجرّدة إياها حتى من مكونها الجنسي المتباين.

إن أزمة معنى الزواج هذه هي حاضرة في طريقة تفكير الكثير من المؤمنين. وتظهر في العائلة والزواج بشكل خاص، المفاعيل العملية لما سبق وسميته بـ “تأويلية عدم الاستمرارية والقطع” في ما يختص بتعاليم المجمع الفاتيكاني الثاني (خطاب إلى المحكمة الروحية الرومانية، 22 ديسمبر 2005).

فبالواقع، بنظر البعض، يبدو وكأن التعليم المجمعي حول الزواج – وعمليًا وصف هذه المؤسسة بـ “شراكة حياة وحب حميمية” (intima communitas vitae et amoris) (فرح ورجاء، 48) – يجب أن يحمل إلى نفي وجود رباط زوجي لا يمكن حله، لأننا بصدد “مثال” لا يمكن أن “يلزم” به “المسيحيون العاديون”.

وعمليًا، انتشرت في بعض الكتل الكنسية القناعة بأنه لأجل الخير الرعوي لأشخاص يعيشون في حالات زواج غير قانونية، يجب أن تصحح الحالة القانونية بغض النظر عن سَريان زواجهم أو بطلانه، أي بغض النظر عن “حقيقة” وضعهم الشخصي. يعتبر إعلان بطلان الزواج في هذه الحالة مجرد وسيلة قانونية للوصول إلى هذه الغاية، بحسب منطق يصبح فيه القانون تشريعًا للمزاعم الفردية.

في هذا الإطار ينبغي أن نشدد أن المجمع يصف الزواج بالفعل كـ “شراكة حياة وحب حميمية”، ولكن هذه الشراكة، بحسب تقليد الكنيسة، تحددها مبادئ الحق الإلهي الذي يحدد معناها الأنتروبولوجي الأزلي (المرجع نفسه).

وبالأمانة التأويلية للمجمع الفاتيكاني الثاني، تحرك تعليم البابا بولس السادس ويوحنا بولس الثاني، وكذلك قوانين الكنائس الشرقية واللاتينية على حد سواء. ففي هذه الحالات، تم القيام بعمل “إصلاح” و “تجديد في الاستمرارية” في ما يتعلق بالعقيدة والنُظم المرتبطة بالزواج.

وقد بني جهد العمل هذا على القناعة الأساسية بأن للزواج حقيقته، ولاكتشاف هذه الحقيقة ولتعميقها ينبغي أن يتعاون العقل والإيمان، أي المعرفة الإنسانية، المستنيرة بكلمة الله، حول واقع الجنس المتمايز بين الرجل والمرأة، مع حاجتهما العميقة للتكامل، للعطاء النهائي والحصري.

يقدم الكتاب المقدس حقيقة الزواج الأنتروبولوجية والخلاصية، حتى في بعدها القانوني. فمشهور جواب يسوع للفريسيين الذين سألوه إذا ما يكن يحل أن يطلق الرجل امرأته: “ألم تقرأوا أن الخالق في البدء خلقهما رجلاً وامرأة، وقال: لهذا يترك الرجل أباه وأمه ويتحد بامرأته ويصير الإثنان واحدًا؟ فليسا إثنان من بعد بل جسدًا واحدًا. ما جمعه الله لا يفرقنّه الإنسان إذًا” (متى 19، 4- 6). إن الاستشهاد بسفر التكوين (1، 27؛ 2، 24) يعرض حقيقة الزواج “منذ البدء”، تلك الحقيقة التي تبلغ ملأها في علاقتها باتحاد المسيح بالكنيسة (أنظر أف 5، 30- 31)، والتي كانت موضوع تفكير معمق من قبل البابا يوحنا بولس الثاني في سلسلة التعليم حول الحب البشري في المشروع الإلهي. انطلاقًا من هذه الوحدة الثنائية للزوج البشري يمكننا أن نبني أنتروبولوجيةً قانونية للزواج. وفي هذا الإطار تمنحنا كلمات يسو ع الأخيرة نورًا ساطعًا: “ما جمعه الله لا يفرقنّه الإنسان”.

إن كل زواج هو طبعًا ثمرة قبول حر من قبل الرجل والمرأة، ولكن قبولهم الإرادي هو ترجمة عملية لقدرات طبيعية مرسومة في الأنوثة والرجولة. والاتحاد يتم بفضل مشروع الله نفسه الذي خلقهما رجلاً وأنثى وأعطاهما القدرة لتوحيد أبعادهما الطبيعية والمتكاملة إلى الأبد.

إن عدم إمكانية حل الرباط الزوجي لا تنبع من التزام المتعاقدين الدائم، بل هو مرتبط جوهريًا بطبيعة “الرباط القوي الذي أقره الخالق” (يوحنا بولس الثاني، تعليم 21 نوفمبر 1979، عدد 2).

على المتعاقدين أن يلتزما دومًا لأن الزواج هو كذلك في مشروع الخلق والخلاص. وقانونية الزواج الأساسية تكمن في هذا الرباط الذي يشكل بالنسبة للرجل والمرأة حاجة إلى العدالة الحب، لا يمكنهما أن يتخليا عنها دون أن يناقضا مشروع الله بشأنهم، وهذا لخيرهم وخير الجميع.

يجب علينا أن نعمق هذا الوجه، لا لأننا رجال قانون وحسب، بل لأن الفهم الجامع للمؤسسة الزوجية لا يمكنه ألاّ يضم الوضوح القانوني. إلا أن المفاهيم حول طبيعة هذه العلاقة يمكن أن تكون متباعدة بشكل متطرف. فبالنسبة للوضعية، تعتبر قانونية الرباط الزوجي مجرد نتيجة بتطبيق لمعيار بشري فعّال وساري المفعول. في هذه الحالة، يبقى واقع الحياة وا
لحب الإنسانيين خارج مؤسسة الزواج “القانونية”. وتتشكل بالتالي هوة بين الحق القانوني والوجود الإنساني الذي ينفي بشكل قطعي إمكانية التأسيس الأنتروبولوجي للحق القانوني.

إن طريقة الكنيسة التقليدية في فهم البعد القانوني لرباط الزواج، في إثر يسوع، والرسل والآباء القديسين، مختلف كليًا عن النظرة المذكورة أعلاه.

فعلى سبيل المثال، يقول القديس أغسطينس مستشهدًا بالقديس بولس: ” Cui fidei [coniugali] tantum iuris tribuit Apostolus, ut eam potestatem appellaret, dicens: Mulier non habet potestatem corporis sui, sed vir; similiter autem et vir non habet potestatem corporis sui, sed mulier (1 Cor 7,4)” (De bono coniugali, 4,4)”. فالقديس بولس الذي يوضح بعمق بالغ في رسالته إلى الأفسيين “السر العظيم” (mystérion mega)، سر الحب الزوجي بارتباطه باتحاد المسيح بالكنيسة (5، 22- 31)، لا يتردد في تطبيق أحكام القانون القوية على الزواج مبينًا الرباط القانوني الذي يربط الأزواج، في المجال الجنسي.

وكذلك الأمر بالنسبة للقديس أغسطينس الذي يعتبر القانونية كجزء جوهري في كل من خيور الزواج الثلاثة: الأولاد، الإيمان والسر (proles, fides, sacramentum)، التي تشكل ركائز تعليمه العقائدي حول الزواج.

أمام النسبية الذاتانية والمفلتة للخبرة الجنسية، تؤكد الكنيسة بوضوح على الطابع القانوني الطبيعي للزواج، أي انتمائه طبيعيًا إلى إطار العدالة في العلاقات البيشخصية (interpersonal). فمن هذا المنظار، يرتبط القانون فعلاً بالحياة كوجوب تحول جوهري.  وكما كتبت في رسالتي الحبرية الأولى، “في توجه مؤسس في الخَلق، يوجه الإيروس الإنسان إلى الزواج، إلى رباط ميزته الحصرية والطابع النهائي؛ وهكذا، وهكذا فقط، تتحقق غاية الإنسان العميقة”. (الله محبة، 11).

بامكان الحب والحق القانوني أن يتحدا فـ “يوجبا” بذلك على الرجل والمرأة الحب المتبادل الذي “يشعران به بعفوية”: فالحب فيهما هو ثمرة إرادتهما الحرة لخير الآخر ولخير الأبناء؛ وهذا، هو في آخر المطاف من متطلبات حب الإنسان لنفسه.

يجب أن يرتكز على هذا الأساس كامل عمل الكنيسة والمؤمنين في المجال العائلي، أي على هذه  “الحقيقة حول الزواج  وبعده القانوني الجوهري”. وبالرغم من ذلك، فكما سبق وقلت، إن العقلية النسبية، بأشكال سافرة أو غامضة، يمكنها أن تتسلل إلى داخل الجماعة الكنسية. وأنتم على علم بآنية هذا الخطر الذي يظهر غالبًا من خلال تأويل خاطئ للقوانين المرعية الإجراء.

يجب أن نواجه هذا الميل بشجاعة وثقة، مطبقين دائمًا “تأويل التجديد في الاستمرارية” دون أن ننخدع وننجذب وراء سبل تأويل تؤدي إلى انفصال عن تقليد الكنيسة. فهذه الطرق تنأى عن الكنه الحقيقي للزواج لا بل عن جوهر بعده  القانوني، وبعناوين جذابة تسعى إلى خلق مظهر غاش عن حقيقة الزواج. ويتم التوصل بهذا الشكل إلى التصريح بأن ما من شيء محرم في العلاقات الزوجية، وأن طل شيء يسمح به أو لا نظرًا للتطلعات الفردية لكل من الزوجين. من هذا المنظار، يتأرجح واقع الزواج (in facto esse) بين علاقة أمر واقع وبين واجهة قانونية-وضعية، ويتم تناسي جوهر الرباط الزوجي الذي هو رباط عدالة بين شخصي الرجل والمرأة.

إن إسهام المحاكم الكنسية في تخطي أزمة المعنى التي يواجهها الزواج، في الكنيسة وفي المجتمع، يمكن أن يبدو بالنسبة للبعض ثانويًا ورجعيًا. ولكن، نظرًا لطبيعة الزواج القانونية الجوهرية، يشكل الالتزام بدور العاملين للعدالة في هذا الحقل البالغ الأهمية شهادة عالية المدلول، وركيزة هامة للجميع”.

* * *

واختتم البابا خطابه متوجهًا إلى أعضاء المحكمة الروحية الرومانية، وداعيًا إياهم لادخال عملهم في سلسلة الجهود العالمية الرامية إلى اكتشاف جمال “حقيقة الحب”، “حقيقة ‘البدء‘ التي علمها يسوع والتي يذكر بها الروح القدس الكنيسة في هذا الزمن الحاضر”.

 

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

ZENIT Staff

فريق القسم العربي في وكالة زينيت العالمية يعمل في مناطق مختلفة من العالم لكي يوصل لكم صوت الكنيسة ووقع صدى الإنجيل الحي.

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير