غريغوريوس الثالث: أوقفوا هجرة مسيحيي الشرق

بيروت، 31 يناير 2007 (zenit.org). – عن مجلة الكفاح العربي –

السلام والعيش المشترك والحضور المسيحي في الشرق العربي… موضوع رسالة الميلاد لغبطة البطريرك غريغوريوس الثالث لهذا العام, هذه المحاور التي تشغل العالم كانت موضوع حوارنا معه حيث أكد فيه ان السلام هو التحدي الأكبر الآتي أمامنا, واننا بالمحبة عشنا وتعايشنا وسنتعايش مسلمين ومسيحيين, وحث المسيحيين على التمسك بوطنهم والابتعاد عن الهجرة التي وإن كانت حقاً للجميع لكن لا تعني الهروب من مسؤولية يفرضها الوجود التاريخي والحضاري للمسيحيين في الشرق. ويعتبر أن زيارة البابا بنديكتوس إلى تركيا مؤخراً تؤكد ان المحبة لا تسقط أبداً وبها نتخطى كل الصعاب.

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

ننشر في ما يلي القسم الاول من المقابلة

تشهد المنطقة العربية هجرة العقول والشباب بشكل عام, وهجرة المسيحين بشكل خاص, وهناك تخوف من هذه الهجرة, لما سيسببه من انحسار اعداد المسيحيين كما هو متوقع إلى اقل من ستة ملايين مع حلول العام 2025. هل ترون ما يستدعي الخوف في ذلك؟ وما أسباب هذه الهجرة برأيكم وهل من تدابير مقترحة إزاء هذه المشكلة؟

 

 الهجرة أمر مشروع, وحق لكل انسان لا ينال في المكان الذي يعيش فيه كامل حقوقه أن يهاجر إلى المكان الذي يجد فيه عملاً يضمن له كرامته وسعادته. وهناك تخوف بالتأكيد من هذه الهجرة لما لها من عواقب خطيرة وأليمة وجسيمة, حيث ان هجرة المسيحيين التي تطاول كل رعايانا من كل طوائفنا المسيحية في العالم العربي, بخاصة من لبنان وسوريا وفلسطين والأردن ومصر والعراق, تعني تفريغ الشرق من المسيحيين. إن هذه الهجرة تعني رويداً رويداً فقدان التعددية والتنوع في العالم العربي وتلاشي طاقات الحوار المسيحي الاسلامي, الذي هو حوار بشري, وحوار ديني ولكنه حوار حياتي, يومي, مجتمعي. حوار حضاري وثقافي وإنساني ووجداني, يتجلى في كل مظاهر نسيج الحياة اليومية في المجتمعات العربية.

إن هجرة المسيحيين تشكل نزيفاً مستمراً. وتعني أن المجتمع العربي سيصبح مجتمعاً ذا لون واحد, مجتمعاً عربياً ­إسلامياً بإزاء مجتمع اوروبي­مسيحي ولو أنه مجتمع علماني وربما غير مؤمن. وإذا تم ذلك وأفرغ الشرق من المسيحيين, فتصبح كل فرصة ملائمة لقيام صراع الحضارات والثقافات والديانات. وتصبح الفرص مؤهلة لصراع مدمر بين الشرق العربي­المسلم, والغرب ­ المسيحي, صراع سيكون صراعاً مسيحياً ­إسلامياً, صراع المسيحية والاسلام وبئس المصير.
اما أسباب الهجرة فهي تتراوح مع بعض الاختلاف في هذا او ذاك من بلداننا بين عدم الاستقرار السياسي في المنطقة, وعدم الاستقرار الاقتصادي كنتيجة حتمية للأولى, وانعدام الامن والحالة الاجتماعية المتردية, والغربة النفسية والمعنوية وانتهاك الحريات العامة والحروب المفروضة, وأعمال العنف والارهاب. والسبب الأساسي هو الصراع العربي الاسرائيلي وما يفرزه من أزمات وويلات في الشرق الأوسط, ومن إفرازات هذا الصراع الحركات الأصولية على اختلافها. وكذلك الشقاق والنزاعات داخل العالم العربي, وتباطؤ التطور والازدهار, ونمو البغض والكراهية وفقدان الأمل, والاحباط لا بل القرف لدى الشباب, وهم يؤلفون ستين بالمئة من سكان الأقطار العربية. وإذا كان السبب هو الصراع العربي الاسرائيلي فالوفاق المرجو بين العرب هو وحده الكفيل بإعادة السلام وإقرار العدل في فلسطين وفي الشرق الأوسط باسره, وهذا يفترض موقفاً عربياً موحداً, ثابتاً وفاعلاً وصريحاً حول القضية الفلسطينية لأجل حلها. كما يفترض موقفاً أميركياً وأوروبياً أيضاً صريحاً وثابتاً وموحداً.
وادعو جميع أبنائنا إلى الصبر والثقة, وليعلموا أن ما يعانيه المسيحي من صعوبات يعانيه المسلم, والصعوبات ليست صعوبات إيمان بمقدار ما هي صعوبات مجتمعية, سياسية اقتصادية ثقافية, يتعرض لها الانسان بغض النظر عن دينه وجغرافية موقعه وثقافة بلاده.
إننا نتفهم صعوبة الأوضاع التي تثير القلق حول المستقبل المسيحي في هذا الشرق وفي الوقت عينه نجدد العزم على العمل مع المؤسسات الكنسية, والحكومات, واصحاب القرار محلياً واقليمياً ودولياً, ومع ذوي الارادات الحسنة والقادرين المتمولين, من اجل إيجاد المبادرات الكفيلة بتوفير الاستقرار السياسي والاقتصادي والامني والاجتماعي. ونؤكد حرصنا على تفعيل دور المسيحيين في بلدانهم, في مختلف مجالات الحياة العامة, لما لمساهمتهم من فاعلية في إحياء اوطانهم بفضل خبراتهم وتراثهم وجدية عملهم. ولا بد من التذكير بان للمسيحيين في هذا الشرق دوراً هو بمثابة حلقة وصل بين الحضارة الاسلامية والحضارة المسيحية, تفتح بينهما إمكانية إجراء حوار بناء. فلا يجوز أن يتقلص هذا الدور, إسهاماً في إحلال السلام في المنطقة والعالم.
لقد عالج أصحاب الغبطة البطاركة الشرقيون الكاثوليك موضوعاً متعلقاً بما نحن في صدده. وقد عقدوا مؤتمرهم السادس عشر وكان عنوانه الكنيسة وأرض الوطن وقد درسوا في مؤتمرهم السابق موضوع العدالة والسلام في الشرق الأوسط ومما جاء فيه: «إن ارض شرقنا مروية بدماء شهدائنا وعاش عليها آباء كنائسنا وقديسوها. وهي مهد الحضارات والأديان ومنبت الكنائس والأديار التي منها أخذنا هويتنا وإيماننا وحضارتنا, إن حضورنا في هذا الشرق حيث أرادنا الله, يقتضي منا الأمانة للمسيح, والالتزام بالشهادة لمحبته, وتطبيق مبادئ انجيله المقدس, والقيام بواجب الخدمة لمجتمعاتنا. ومهما تفاقمت المصاعب فإن لنا علامات رجاء ساطعة في ما لكنائسنا من غنى روحي وثقافي واجتماعي ووطني, جمل كنيسة المسيح الواحدة والمتنوعة في تراثاتها الليتورجية واللاهوتية والروحية والتنظيمية, وفقاً للتقاليد الاسكندرية والانطاكية السريانية والمارونية والرومية الملكية, والكلدانية والأرمنية واللاتينية».

 عاش المسيحيون والمسلمون في الشرق منذ القدم بأجواء يحكمها الود والاحترام والقانون والأمن, إلى أن برزت بعض الحركات الأصولية الاسلامية, وتراجع حالة التسامح الاسلامي فصار المسيحيون يخافون إخوانهم الاسلام, وفي بعض البل
اد العربية كمصر والعراق لحق بالمسيحين أضرار واضحة, مع ان الاسلام
والمسيحية شعب واحد وأرض واحدة ولغة واحدة, ماذا يمكن أن يحمل الحوار المسيحي الاسلامي من توصيات, خصوصا أنكم معنيون بهذا الأمر ولديكم مراكز للحوار الديني في لبنان والأردن وغيرها؟

 

­ أرى هنا انه من الضروري أن نتوجه إلى أبنائنا المسيحيين في سعينا لاقناعهم بالبقاء في أوطانهم حيث زرعهم الله, وباسمهم ومن منطلق مسؤوليتنا كعرب مواطنين في البلاد العربية, إلى إخوتنا المسلمين,إلى الحكام والشيوخ والفقهاء والمثقفين والمفتين, وإلى عموم المسلمين, لكي نقول لهم بصراحة ما هي الهواجس التي تنتاب المسيحيين, وما هي مواقع التخوف عندهم, والتي تدفعهم إلى الهجرة. إنها ليست أسباباً دينية بحتة, ولكنها ذات طابع اجتماعي, قومي, حضاري, وأيضاً ديني. فعندما نتكلم عن العيش المشترك والتعايش والمواطنية, فلا بد أن يكون تحقيق شروط هذه المبادئ واجباً يقع على كاهل المسلم كما يقع على كاهل المسيحي, هكذا هو الأمر في الكلام عن فصل الدين عن الدولة, وعن العروبة وعن القومية والديمقراطية وحقوق الانسان, والتشريعات التي ترتكز على الاسلام كمصدر وحيد للشريعة أو كمصدر رئيسي, والتي تتسبب في تشريع قوانين ومواد دستورية تميز بين المواطنين على أساس الدين وتحول من دون المساواة أمام القانون, وتنتقص من المساواة في المواطنة . وكذلك القول عن أحزاب متشددة وتيارات إسلامية وحركات أصولية هنا وهناك. تنسب إليها, بحق أو بغير حق, أعمال عنف وارهاب وقتل واحراق كنائس وتسلط مواطنين على اترابهم, واستغلال الدين والاغلبية الدينية, لأجل إذلال الجار أو رفيق العمل والمهنة… هذه الأمور تجعل المسيحيين يشعرون بالقلق والخوف من مستقبل مجهول في مجتمع ذي أغلبية مسلمة وكثيراً ما ينعتون بالعمالة أو بأنهم صليبيون أو كفار أو متعاملون مع الغرب أو اسرائيل… هذه الأمور وسواها على شبهها تشكل موضوع تخوف لدى المسيحيين. ولا بد من أن تكون موضوع حلقات دراسية ومؤتمرات ومحاضرات واجتماعات في العالم العربي والاسلامي . ولا بد من أن تعالج بموضوعية حقيقية, فيضع المسلمون والمسيحيون معاً يدهم على الجرح الذي يسبب نزيف الهجرة لدى المسيحيين. نقول لإخوتنا المسلمين بكل ثقة ومحبة. نحن وشعبنا ورعايانا نريد أن نعيش معاً ونكمل مسيرة الاجيال السابقة, ونريد من اخوتنا المسلمين لا أن نكون ذميين محميين بل مواطنين مثلهم, لنا ولهم نفس الحقوق والواجبات. ونريد ان نبني معهم أوطاننا ونسهم في مستقبل أفضل لها. هكذا كان دور المسيحيين في التاريخ, وهكذا يجب أن يكون اليوم معاً في الألفية الثالثة للميلاد والقرن الخامس عشر للهجرة. فلا نطلب حماية من إخوتنا المواطنين المسلمين, بل مساواة وتكافؤاً في فرص العمل والمهنة. نريد عيشاً مشتركاً وتعايشاً بكل ما تحويه هذه العبارات من محبة وثقة واحترام وإكرام ومسؤوليات مشتركة, وتضامن ومسيرة مشتركة وعطاء وتضحيات في سبيل أوطاننا. ونريد أن نشعر بهذا المناخ في كل بلادنا العربية من دون استثناء. فالمسيحي مواطن عربي في كل بلد عربي, اكان عدد المسيحيين قليلاً او كثيراً, أكانوا فقراء أم أغنياء… لهم حق المواطنة الكاملة وفي كل قطر من الأقطار العربية ومن دون استثناء. ولهم حق الحرية الكاملة في ممارسة شعائرهم الدينية, وبناء كنائسهم لتتعانق مع مساجد اخوانهم المسلمين. ونقول إن لدينا نحن المسيحيين طاقات جبارة, ولنا اديارنا ومدارسنا وجامعاتنا ومؤسساتنا الخيرية والاجتماعية والثقافية والصحية… وكلها نسخرها في خدمتهم. ولكن إذا هاجرنا فكل هذه الطاقات ستتبدد وتزول. والخاسر هو الانسان العربي, المسلم والمسيحي سواء بسواء. ونؤكد لهم مجدداً ان تواصلنا الايجابي والحفاظ على قيمنا الايمانية مسيحيين ومسلمين هو أساس مواطنتنا الحقيقية وعيشنا المشترك. والتحدي الأكبر لنا من مسيحيين ومسلمين, هو كيف نعيش إيماننا في عصر العولمة, وكيف نوصله وديعة ثمينة مقدسة إلى أجيالنا الطالعة وإلى شبابنا مسيحيين ومسلمين, وهم سواء بسواء معرضون للأخطار عينها في عالم اليوم.

 هل نستشف من ذلك وجود أزمة هوية مسيحية عربية؟­

 

 لا أزمة هوية بل أزمة وجود ودور وحقوق وامتيازات, اما الحقوق المدنية والسياسية والمجتمعية, والمراكز والامتيازات وسواها, فهي قضايا لا علاقة لها بالدين والايمان… ولكنها بالطبع جزء أساسي من حياة كل مواطن وتؤثر فيه سلباً وإيجاباً, ويمكن أن تكون سبب ويلات ومصاعب جمة للأسرة… ولكنها تعالج مدنياً, وليس من منطلق ديني أو طائفي. بالطبع يصعب الفصل فصلاً حاسماً بين متطلبات الحياة الدينية والمجتمعية… ولا بد من أن يعالج المسيحي هذه الأمور من منطلق إيمانه من جهة, ولكن أيضاً من منطلق مواطنته وحقوقه المدنية وحقوق الانسان عامة. ويطالب بها بكل الوسائل المشروعة والمتاحة. ولكن لا بد للوصول إلى هذا المستوى في التعامل مع المجتمع ومع مختلف التوجهات والتيارات التي فيه, لا بد من وجود مسيحيين منفتحين حاضرين شاهدين في المجتمع, منخرطين في الحياة المجتمعية والسياسية والاقتصادية, مشاركين مشاركة كاملة في حياة أوطانهم, من منطلق مواطنتهم أولاً ثم منطلق إيمانهم وقيم الانجيل المقدس. إنه صراع المصالح! ولا صراعاً دينياً ولا مسيحياً ولا إسلامياً ولا إيمانياً… وصدق قول الشاعر: وإنما تؤخذ الدنيا غلابا!
وهذا ما أشار إليه
قداسة البابا بنديكتوس السادس عشر في رسالته البابوية الأولى «الله محبة ميلاد 2005» وكما أورده في اكتوبر 2006 البيان الختامي في مجلس البطاركة والاساقفة الكاثوليك في لبنان قائلاً: «مهمة الكنيسة المساهمة في تنقية العقل من العمى الخلقي ومن تجربة المصلحة الخاصة والتسلط, بحيث يتم الاعتراف هنا والآن بما هو عدل وحق, ويوضع موضع العمل. وتعمل الكنيسة على تنشئة الضمائر في المجال السياسي والاقتصادي وتوجيهها إلى مقتضيات العدالة بشكل أشمل, والحث على العمل بموجبها, ولو تناقضت مع المصلحة الشخصية». وقد عرضت اقتراحاً على هذا المجلس فيه دعوة إلى السلام وإلى تطوير الأوضاع الاجتماعية في بلادنا العربية. إذ إن هذا التطوير له تأثير كبير في تحسين ظروف المعيشة والحياة للمواطنين ويخفف من وطأة الهجرة. يدعو هذا الاقتراح إلى تأليف مجموعة مسيحية اجتماعية تطالب المسؤولين في الدول العربية بدعم المدارس الخاصة وتأمين الضمان الاجتماعي والتقاعد والضمان الصحي. كما ورد في الاقتراح, القيام بمساعٍ حثيثة من قبل مجلس البطاركة والاساقفة الكاثوليك في لبنان ومجلس البطاركة الشرقيين الكاثوليك, لدعم مساعي السلام في الشرق الأوسط من خلال الاتصال بالمجالس الاسقفية في العالم والدول العظمى والمحافل الدولية ومجلس الأمن, لكي يعملوا على تحقيق السلام في الشرق الاوسط. إن هذه المساعي محلياً, عربياً, واقليمياً ودولياً, هي من صميم رسالة الكنيسة في خدمة المجتمع.

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

ZENIT Staff

فريق القسم العربي في وكالة زينيت العالمية يعمل في مناطق مختلفة من العالم لكي يوصل لكم صوت الكنيسة ووقع صدى الإنجيل الحي.

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير