سر الميلاد

أيها الإخوة والأخوات الأعزاء!

يجري لقاؤنا اليوم في أجواء ميلادية مفعمة بالفرح لميلاد المخلص. لقد احتفلنا للتو، قبل البارحة بهذا السر الذي يتردد صداه في ليتورجية هذه الأيام. وهو سر نور يستطيع البشر بكل عصر الاحتفال عيشه من جديد بالإيمان.

تدوي في نفوسنا كلمات الإنجيلي يوحنا الذي نحتفل اليوم بعيده: "الكلمة صار جسدًا وحل بيننا" (Et Verbum caro factum est) (يو 1، 14). فبالميلاد إذًا جاء الله ليسكن فيما بيننا؛ لقد جاء لأجلنا، ليبقى معنا.

هناك سؤالٌ يجتاز الألفي سنة من التاريخ المسيحي: "ولكن، لم فعل هذا؟ لماذا صار الله إنسانًا؟"

يساعدنا في الإجابة على هذا السؤال النشيد الذي رنمته الملائكة فوق مغرة بيت لحم: "المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام للناس الذين يحبهم" (لو 2، 14). فنشيد ليلة الميلاد قد دخل في صلاة "المجد لله"( Gloria) التي باتت تشكل جزءًا من الليتورجية، كما هو الأمر بالنسبة لأناشيد العهد الجديد الثلاثة الأخرى المتعلقة بمولد وطفولة يسوع: "مبارك الرب" (Benedictus)، "تعظم نفسي الرب"( Magnificat)، و "الآن أطلق يا رب عبدك"( Nunc dimittis).

وقد أدرجت هذه الأناشيد الأخيرة بالتتابع في صلاة التسابيح الصباحية، في صلاة المساء وفي صلاة الليل، أما "المجد لله"، فقد أدخل في القداس الإلهي. وقد اضيفت إلى كلمات الملائكة منذ القرن الثاني بعض الهتافات: "نسبحكك، نباركك، نسجد لك، نمجدك، نشكرك لأجل جزيل عظمتك"؛ وفي وقت لاحق أضيفت دعاءات أخرى: "أيها الرب الإله، يا حمل الله، يا ابن الآب الذي يحمل خطايا العالم..."، وصولاً إلى تكوين نشيد تسبيح ملحن أنشد للمرة الأولى في قداس الميلاد ومن ثم في كل الأعياد الاحتفالية. بوضعه في مطلع الاحتفال الافخارستي، يسلط نشيد "المجد لله" الضوء على الاستمرارية الكائنة بين ميلاد وموت المسيح، بين الميلاد والفصح، كعنصرين لا منفصلين لسر الخلاص الفريد نفسه.

يروي لنا الإنجيل أن طغمة الملائكة كانت تغني: "المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام للناس الذين يحبهم". يعلن الملائكة للرعاة أن ميلاد يسوع "هو" مجد لله في أعالي السماوات؛ و "هو" سلامٌ على الأرض للناس الذين يحبهم. لذا هي ملائمة العادة أن نضع على المغارة هذه الكلمات الملائكية لشرح سر الميلاد الذي تم في المغارة. فعبارة "المجد" (doxa) تعلن بهاء الله الذي يوقظ اعتراف تسبيح الخلائق. يقول القديس بولس: "مجد المعرفة الإلهية يتألق في وجه المسيح" ( 2 قور 4، 6). "السلام" (eirene) يختصر ملء المواهب المسيحانية، أي الخلاص، الذي لا ينفك الرسول يطابقها مع المسيح نفسه "فبالواقع، هو سلامنا" (أف 2، 14). وهناك أخيرًا إشارة إلى الناس "ذوي الإرادة الصالحة". "الإرادة الصالحة" (eudokia)، في اللغة العامية تجعلنا نفكر "بإرادة الناس الطيبة"، اما المقصود هنا فهو "إرادة الله الطيبة" نحو البشر التي لا تعرف حدودًا. ومن هنا رسالة الميلاد: مع ميلاد يسوع، اظهر الله غرادته الطيبة نحو الجميع.

لنعد إلى السؤال: "لماذا صار الله إنسانًا؟". كتب القديس إيريناوس: "أصبح الابن موزعًا لمجد الآب لخير البشر. مجد الله الإنسان الحي -  vivens homo – وحياة الإنسان مشاهدة الله". (Adv. Haer. IV, 20,5.7 ضد الهراطقة). يتجلى مجد الله إذًا في خلاص الإنسان الذي هكذا أحبه الله "حتى بذل ابنه الوحيد – كما يقول القديس يوحنا – لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية" (يو 3، 16). لذا فالحب هو السبب الأساسي لتجسد المسيح. إنه لبليغ بهذا الصدد تفكير اللاهوتي هانس أورس فون بالتازار الذي كتب: الله "ليس، في أول مقام، قوة مطلقة، بل حبًا مطلقًا يُظهر جبروته لا من خلال التشبث بما هو له بل من خلال التخلي عنه" (Mysterium paschale I, 4 السر الفصحي). إن الله الذي نتأمله في المغارة هو الله-محبة.

من هذا المنظار يبدو لنا إعلان الملائكة كدعوة: "ليكن" مجد لله في أعالي السماوات، "ليكن" سلام على الأرض للناس الذي يحبهم. فالسبيل الوحيد لتمجيد الله ولبناء السلام في العالم يتكون من تقبل الحب الذي هو عطية الميلاد بتواضع وثقة. عندها يمكن ان يصبح نشيد الملائكة صلاة يمكننا تردادها غالبًا، لا في زمن الميلاد فقط. نشيد تسبيح لله في أعالي السماوات ودعاء متقد للسلام على الأرض يُترجم بالتزام عملي في بناء السلام في حياتنا. فالميلاد إنما يأتمننا على هذا الالتزام.