الفاتيكان، 15 يناير 2007 (ZENIT.org). – ننشر في ما يلي مقال البروفسور أندريا ريكاردي، مؤسس جماعة سانت إيجيديو، بعنوان: "السلام هو الواقعية الحقة" نُشر في جريدة الفاتيكان، “L'Osservatore Romano” في 14 يناير.

إن خطاب البابا بندكتس السادس عشر أمام السلك الدبلوماسي يظهر مرة أخرى كيف أن اهتمام البابا والكنيسة موجه إلى حالات الألم وإلى الأزمات في العالم المعاصر.

ولم يكن الخطاب مداخلة رسمية – كما صرح البابا نفسه – بل تعبيراً عن انتباه الكنيسة المستمر، أي نظرة شمولية على كل العوالم حتى تلك التي قد تبدو بعيدة وغير مهمة. فهي ليست كذلك بالنسبة للكنيسة.

ففي كل مكان هناك جماعة كاثوليكية تعيش حالة ألم، وفي هذه الحالة تعيش باتحاد تام في قلب الشراكة المسيحية الشاسعة.

ثم إن أي إنسان يعاني الألم، من أي دين كان، هو موضع اهتمام الكنيسة. وقد أوضح البابا أن احترام الشخص البشري هو أساسي من أجل تحقيق السلام، وأضاف: "فقط من خلال بناء السلام يمكننا أن نضع أسساً إنسانية أصيلة ومتكاملة".

إن كنيسة بندكتس السادس عشر لم تتخل عن رجاء سلام متين يشمل كل العالم. في الواقع، لم يكن السلام هذيانًا نادى به الكاثوليك طيلة القرن العشرين. قد تم إعلان يوتوبيا عالم أفضل بقوة خلال التاريخ، ولكن هذه النداءات تحطمت بحكم اصطدامها لحائط الواقع، مولدة بذلك مفارقة  الاستسلام لواقع الشر.

غالبًا ما يكون النشاط السياسي متأرجحًا بين اليوتوبيا والاستسلام للواقع. وفي النهاية يبدو أن الغلبة كانت للاستسلام. تبقى مفتوحة جراح مأساوية في البشرية، تبدو غير قابلة للمعالجة كالمجاعة، ونقص المياه لدى الملايين من البشر...

أما بالنسبة للكنيسة فالسلام لم يكن يوتوبيا في القرن العشرين، بل رجاءً وطيدًا وثابتًا، لم يتزعزع حتى في الأوقات الأكثر ظلامًا. يجب أن نكون شاكرين لجميع باباوات القرن العشرين، لأنهم كانوا شهودًا حقيقيين للسلام، داعين الناس وحكامهم إلى عقلانية السلام حتى بوجه هذيان الحروب وعبودية العنف.

خطاب البابا بندكتس السادس عشر هذا مفعم بالرجاء، ولكنه موسوم أيضًا بحس مرهف للواقع. فهو لا يتأخر في تحليل حالات الصراع التي ما تزال مفتوحة، ليقول أننا لم نتخل بعد عن رجاء السلام. إن خبرة الكنيسة الكبيرة في القرن المنصرم أفنعتها أكثر من ذي قبل أن الحروب والثورات والعنف توقع العالم فب حالة أسوأ مما هو عليه. الحرب والعنف لا يمثلا العالم الجديد، بل التعبير عن عالم قديم يستمر.

إن خبرة المسيحية في الإنسانية تُعرض من جديد من خلال كلمات البابا على عالم بات يعتبر الحرب، باستسلام وخفة، كالرفيقة الاعتيادية لدرب الإنسانية. بكلمات أخرى، مثل شر ضروري، أو أسوأ من ذلك، كوسيلة يمكن اللجوء إليها لتغيير الواقع.

يمكن  أن نجد في خطاب البابا أمام السلك الدبلوماسي التأكيد على وسيلة لإحلال السلام يتبعها الكرسي الرسولي منذ أمد بعيد. يتحدث البابا عن لبنان، ولكن حديثه يأخذ أبعادًا أرحب: "لن يتوانى الكرسي الرسولي في تكرار أن الحلول العسكرية لا تؤدي إلى اية نتائج، كما تمكنّا من الاستنتاج بعد حرب لبنان في الصيف الماضي". ويضيف البابا: "من أجل وضع حد للأزمات وللآلام التي تسببها للشعوب، يجب أن نلجأ لأسلوب متكامل لا يستثني أحدًا في سعيه إلى حلول متداولة ويأخذ في عين الاعتبار آمال الشعوب ومصالحها المشروعة".

الحرب هي خسارة للجميع وتولد حتى بالنسبة للمنتصرين أوضاعًا غير محتملة. يمكننا أن نلاحظ هذا الأمر بشكل واضح إذا ما نظرنا إلى الوضع في الشرق الأوسط، الذي لا يستطيع التوصل إلى السلام منذ أكثر من نصف قرن. ولكن الأمر نفسه ينطق على الحرب الأهلية وعلى الإرهاب (لم ينس البابا الحالات الموجودة في أوروبا). ينبغي التفاوض من أجل السلام: هذا هو درس الكنيسة العظيم، الذي يأتي من خبرتها التاريخية ومن معرفتها بالإنسان. وقد صرح بندكتس السادس عشر بقوة: "نلاحظ أن السلام غالبًا ما يكون ضعيفًا، ومستهزءاً به.

لا يمكن أن تعتاد الأسرة الدولية على ضعف السلام وعلى الاستهزاء به. فوضع إفريقيا نموذجي. وقد حض البابا في حديثه مرتين اثنتين ألاّ ننسى إفريقيا.

نحن على أبواب الاحتفال الخمسيني بمعاهدة روما ويمكننا أن نلاحظ أن الفكرة التأسيسية للاتحاد الأوروبي كانت منفتحة بعزم على إفريقيا، ولكن مع مرّ السنين تم تناسي هذه الفكرة وتم الوقوع في القوقعة الأوروبية. "لا يمكننا أن نتناسى القارة الأفريقية"، كرر البابا. وأضاف بحزم: "أدعو الجميع إلى العمل بجد: لا يمكننا أن نقبل أن يستمر ألم الأبرياء وموتهم". وفي المسألة الأفريقية أيضًا دعا بندكتس السادس عشر إلى الحوار: "يجب أن نذكر أن المفاوضات بين الفرقاء هي وحدها قادرة أن تفتح الطريق من أجل حل عادل للنزاعات ومن أجل اختبار التقدم الملموس نحو إحلال السلام".

في الإطار الدولية، لا نجد مجرد إشارات سلبية. إن نظرة البابا لا تستسلم للتشاؤم الذي يبدو مشروعًا نظرًا لأزمة تبدو بلا حلول، تستنفد الكثير من الطاقات البشرية في الصراعات والبؤس.

يبدو واضحًا أن الكنيسة مقتنعة أن هناك طاقات إنسانية كافية من أجل التقدم نحو السلام ونحو حياة أفضل. وقد رأى البابا هذه العلامات الإيجابية في أميركا اللاتينية وفي آسيا.

ويلفت البابا بندكتس السادس عشر انتباهنا إلى الحالة في إفريقيا حيث تسود ثقافة حياة قوية، وحيث يسعى البعض أن يخفف من وقع الإجهاض من خلال ما يعرف بمشروع "مابوتو" وبروتوكول عمل وزارة الصحة في الاتحاد الإفريقي. إن التعدي على الحياة البشرية، وبالأخص في أضعف حالاتها، قبل الولادة (وهو أمر غاية في السهولة)، لا يبني مجتمع سلام وعادلة، بل يزرع العنف.

الكثير من مجتمعاتنا، الفقيرة منها والغنية، مريضة بمرض العنف.

البابا يرجو سلامًا كبيرًا، عميقًا وشاملاً. هل هذا حلم؟ السلام، لمن يتمتع بذاكرة تاريخية، هو الواقعية الحقة. فاليوتوبيات الحربية والعنيفة تقود بلدان برمتها، وأحيانًا البشرية بأسرها، إلى حافة الانهيار. لهذا السبب، يقترح بندكتس السادس عشر لا أن نسعى للسلام من خلال الحوار فقط، بل أن نعزز حوارًا مستمرًا بين مختلف فرقاء زماننا، والذين لا يقتصرون على الدول فقط.

يقول البابا: "أريد أن أستشهد بشكل خاص بالوعي المتزايد حول أهمية الحوار بين الثقافات والأديان. نحن أمام ضرورة حيوية، بالأخص بسبب التحديات التي تواجه العائلة والمجتمع".

خلاصة القول، يتوجب علينا، كعمال مجتهدين، أن نحوك كل يوم "الأسس المشتركة للتعايش المتناغم". ولسنا في أول الطريق: لقد تم القيام بالكثير، وما علينا إلا أن نجعله أكثر ثباتًا. ولكن هناك في الوقت عينه الكثير من السوء الذي ينبغي إزالته.

الكنيسة، كما يمكننا أن نقرأ في كلمة البابا، تستطيع أن تقوم بشيء بهذا الصدد، وهي تقدم خدماتها: وينهي البابا بندكتس السادس عشر قائلاً: "نعم، يمكن للمستقبل أن يكون مشرقًا، إذا عملنا سوية من أجل الإنسان".

ترجمة وكالة زينيت العالمية (ZENIT.org)

).L’Osservatore Romano, 14 Gennaio 2006حقوق الطبع 2007: (