روما، الخميس 29 مارس 2012 (ZENIT.org) – أوضحَ بندكتس السادس عشر في عظته خلال الذبيحة الإلهيّة التي أُقيمت في هافانا في ساحة الثورة بحضور رئيس الجمهوريّة الكوبي راوول كاسترو وألافٍ من الأشخاص يومَ الأربعاء أنّ “لا مفرَّ من الحقيقة عند الإنسان للوصول إلى الحريّة” لأنّها أساس الأخلاقيّات. كما خصًّص البابا عظتَه للتأمّل والتفكير في الحقيقة والحريّة والأخلاق والإيمان والمنطق والتحوّلات الإجتماعيّة.
* * *
إخوتي وأخواتي الأعزّاء،
“مباركٌ أنت أيها الرب إله آبائنا نحمدك ونرفعك إلى الدهور ومبارك آسم مجدك القدوس” (دا 3/52). نشيد التّسبيح هذا من سفر دانيال ولا يزال صداه يتردد حتّى اليوم في طقوسنا الليتورجيّة، داعيا ايّانا، مرارا وتكرارا”، إلى تسبيح الله وتمجيده ونحن طيف من هذه الأجواق التي تمجّد الرّب بلا انقطاع. نتّحد بحركة النعمة هذه، ونقدّم أصواتنا الفرحة والواثقة، العاملة على تعبيد طريق الإيمان بالحب والحقيقة.
“مباركٌ أنت أيها الرب” هو الرب الذي يجمعنا معًا اليوم في هذه الساحة الرمزيًة بامتياز لنمتلئ أكثر من حياته. يغمرني اليوم فرحٌ لتواجدي في ما بينكم مترئسًا هذا القداس الإلهي في هذه السنة اليوبيلية المكرسة لعذراء المحبّة في كوبري.
أتوجه بتحيّة من القلب إلى رئيس أساقفة هافانا الكاردينال خايمي أوررتيغا إي ألامينو ، وأشكره على كلّ الكلام الطيّب الذي توجّه به إلي باسمكم أنتم. أحيّي أيضا الكرادلة، اخوتي أساقفة كوبا والبلدان الأخرى الذين أتوا لمشاركتنا هذا الإحتفال المهيب، كذلك الكهنة والإكليريكيين والمكرّسين وجميع المؤمنين الحاضرين هنا، بالإضافة إلى الهيئات الرسمية التي ترافقنا.
في القراءة الأولى التي تليت علينا، يفضّل الشباب الثلاثة، الملاحقون من ملك بابل، مواجهة الموت في المحرقة عوض خيانة ضميرهم وإيمانهم. لقد تسلّحوا بالقوّة “لتسبيح، وتمجيد، ومباركة الله”، في قناعة تامة منهم أن الرب، سيّد الكون والتّاريخ، لن يسلّمهم إلى الموت والفناء. والواقع هو هذا. لا يتخلّى الله مطلقا عن أبنائه ولا ينساهم أبدًا. هو في الأعالي قادرٌ على إنقاذنا وفي الوقت عينه، هو حاضر قرب شعبه، وأراد عبر ابنه يسوع المسيح أن يجعل مسكنه في ما بيننا.
” إن ثبتّم في كلامي كنتم تلاميذي حقًّا تعرفون الحق والحق يحرّركم” (يو 8، 31). يظهرُ يسوع نفسه في هذا النصّ من الإنجيل ابنًا لله الآب والمخلّص الذي وحدَه قادرٌ على إظهار الحقّ وإعطاء الحريّة الحقيقيّة. فما برحت تعاليمُه تحدثُ معارضةً وبلبلة في صفوفِ مُخاطبيه وهو يتّهمهم بالسعي إلى قتله ملمّحًا إلى بذل ذاته على الصليب الذي بات قريبًا. وعلى الرغم من ذلك فهو يحثّهم على الإيمان وعيش كلمته لمعرفة الحقيقية المنقذة التي تفضي إلى الطريق المستقيم.
أمّا الحقيقةُ فهي رجاء كلّ إنسان والسعي وراءها يحتاجُ إلى ممارسةٍ حقيقيّة للحريّة. والكثيرون يحاولون أن يتفادوا خوض هذه الممارسة. والبعضُ مثلَ بيلاطس يهزأون من إمكانيّة معرفة الحقيقة (يو 18، 38) معلنين أنّ الانسان ليس بمقدورِه أن يصلَ إليها أو حتّى أنّهم ينفونَ وجود حقيقيةٍ واحدةٍ للجميع. وتؤدّي حالة الشكّ والنسبويّة هذه إلى تبدّلٍ القلب فتجعله باردًا متردّدًا بعيدًا عن الآخرين ومنغلقًا: أشخاصٌ يغسلون أياديهم كما فعلَ هذا الحاكم الروماني ويتركون أحداث القصّة تجري من دون أن يتورّطوا بها.
ومن جهةٍ أخرى هناك العديدُ من الأشخاص الذين يسيئون ترجمة عمليّة البحث عن الحقيقة وهذا ما يقودهم إلى اللاعقلانيّة والتعصّب فيتقوقعون داخلَ “حقيقتهم” ويسعون إلى فرضها على الآخرين. فهم كعظماء الكهنة العميان الذين حين رأوا يسوع يُضرب ويُدمّم صرخوا غاضبين : “اصلبه” (راجع يو19، 6).
علمًا أنّ من يتصرّف بطريقةٍ غير عقلانيّة لا يمكن أن يصبحَ تلميذًا ليسوع. فالإيمان والوعيُ ضروريّان ومتكاملان في رحلة البحث عن الحقيقة. خلق الله الإنسان مع دعوةٍ فطريّةٍ للسعي إلى الحقيقة ولهذا وهبه العقل. ليست اللاعقلانيّة هي ما تعزّز الدين المسيحي بل هي الرغبةُ في معرفة الحقيقة. فيجبُ على كلّ إنسانٍ أن يبحثَ عن الحقيقةِ وعليه أن يختارَه إن وجدَها حتّى لو تطلّب ذلكَ القيام بتضحياتٍ.
إن الحقيقة، من ناحية أخرى، هي شرط أساسيّ للوصول إلى الحرية، لأننا بها نكتشف أسس الأخلاق فنتمكّن من التلاقي جميعا كبشر، وهي تحمل أجوبة واضحة ودقيقة عن الحياة والموت والحقوق والواجبات والزّواج والعائلة والمجتمع مبنيّة كلّها على إحترام الكائن البشري بشكل حاسم لا يجوز المسّ به. هذا الإرث الأخلاقي ّهو من يقرّب الحضارات المختلفة، ويجمع الشعوب والأديان، السّلطات والمواطنين، والمواطنين في ما بينهم، المؤمنين بالمسيح ومن لا يؤمنون به.
لا تسعى المسيحيّة، عبر الإضاءة على هذه القيم التي تكمن وراء الأخلاق، إلى فرض أي شيء، بل هي تقدّم للبشرية دعوة المسيح لمعرفة الحقيقة المحرِّرة. والمؤمن مدعوّ ليعرض هذه الدّعوة على أبناء عصره، كما فعل المسيح، حتّى في وجه الرّفض القاطع والصّليب. إن اللقاء الشخصي مع من هو الحقيقة بذاته يحثّنا على مشاركة هذا الكنز مع الآخرين، بالشهادة اليومية خاصةً.
أصدقائي الأعزاء، لا تترددوا في اتباع يسوع المسيح ففيه نجد حقيقة الله والإنسان. هو يساعدنا على تخطّي أنانيّتنا، والخروج عن طموحاتنا والتغلب على ما يقهرنا. من يتبع الشّر ويرتكب المعصية يصبح عبدًا للخطيئة وعاجزا عن الوصول إلى الحرية (يو 8/34). فنحن لا نصير أحرارا ما
لم ننبذ الضّغينة وقساوة قلوبنا وعمى بصيرتنا، عندها تنبت فينا الحياة الجديدة.
أنا شديد القناعة أنّ المسيح هو صورة الإنسان الحقّة، وأعلم أننا فيه نجد القوّة الضرورية لمواجهة كل تجربة. لذلك أبشّركم بيسوع المسيح كطريق، وحقّ وحياة. فيه تجدون الحرية الكاملة، والنّور لفهم عمق الحقيقة وتحويلها بقدرة الحبّ المجدّدة.
الكنيسة تحيا لتشارك الآخرين في ما هو لها: المسيح، الرّجاء بالنّصر (قول 1/27). ولتحقيق هذه المهمّة، تجد نفسها مجبرة على اعتماد الحرية الدينية كوسيلة أساسية للتعبير عن الإيمان علانية، ولنقل رسالة الحب والمصالحة والسّلام التي أتى بها يسوع نفسه إلى العالم. يجدر الإعتراف، بفرح، أن كوبا قد خطت خطوات عدّة باتجاه تمكين الكنيسة من نشر رسالتها والتعبير عن ايمانها علنا وصراحة. إنّما لا تزال الطّريق طويلة، ولا بدّ من المتابعة في السّير للأمام، وأنا أشجّع الهيئات الحكومية في هذه الأمة على تدعيم ما قد تحقق باتجاه خدمة حقيقية لخير المجتمع الكوبي أجمع.
يشكل احترام الحريّة الدينية، في بعديها الشخصي والجماعي، مدخلا لوحدة الشخصيّة الإنسانية، للمواطن والمؤمن على حد سواء. ويشرّع هذا الأمر مساهمة المؤمنين في بناء المجتمع، فيدعّم العيش المشترك ويغذّي الأمل بعالم أفضل، ويخلق الظروف المؤاتية للسلام والتنمية المتوازنة… هذا ويرسّخ الأسس الصّلبة لإحترام حقوق الأجيال القادمة.
إن نادت الكنيسة باحترام هذه الحقوق، فليس طمعًا بأية امتيازات، بل إنّ هذا نابع من سعيها لتبقى أمينة على وصيّة مؤسّسها الإلهي، واعية أنه حيث يتواجد المسيح ينمو الإنسان في انسانيّته ويتناغم مع وجوده. لهذا تسعى لتقديم هذه الشهادة في التصريحات والإرشاد، في التعليم المسيحي كما في الأوساط المدرسية والجامعيّة. ونحن نأمل أن يأتي الوقت، قريبا، حيث نرى الكنيسة تزيّن مجالات المعرفة بكلّ المزايا الحسنة للمَهمّة التّي تلقّتها من معلّمها والّتي لا تستطيع التغاضي عنها بتاتا.
أحد الأمثلة المشرقة عن عمل الكنيسة في المجتمع هو كاهنكم الشهير، فيليكس فاريلا، المعلّم والمربيّ، ابن هذه المدينة هافانا. يبرز الأب فاريلا في تاريخ كوبا كأول شخص علّم شعبه كيفية التّفكير. وهو يكشف لنا عن طريق التحوّلات الإجتماعية: صياغة الأمة المحترمة الحرّة يتمّ عبر تربية الإنسان المستقيم، لأن التحوّل المنتظر يرتبط ارتباطا وثيقا بحياة الإنسان الرّوحية، “فلا أمّة دون قيم” (رسائل إلى إلبيديو، رقم 6، مدريد، 1836، ص220). كوبا والعالم متعطّشان للتّغيير، وهذا لن يتم ما لم يشعر كلّ منا بالدّافع الكافي للبحث عن الحقيقة والسير في درب الحب، حيث يزرع المصالحة والأخوّة.
بشفاعة أمنا مريم الكلية القداسة، نصلّي ليمنحنا الله، في كلّ مرة نشترك فيها بالإفخارستيا، أن نتحوّل إلى شهود للمحبّة ، نقابل الشر بالخير (روم 12/21) ونقدّم أنفسنا قربانا مقدّسا لمن بذل نفسه لنا بكل حبّ. لنسر بنور المسيح، هو من يبدّد ظلمة الضّلال. ولنسأله جرأة كالقدّيسين وشدّة كشدّتهم حتّى نصل إليه بجواب حرّ، سخي ومتماسك، دون خوف أو امتعاض. آمين.
* * *
نقلته إلى العربية بياتريس طعمة – وكالة زينيت العالمية
جميع الحقوق محفوظة لدار النشر الفاتيكانية