إنها المرة الأولى – على ما أذكر – التي أكتب لك فيها، فأنا لم أعتد أن أراكِ سوى تلك الطفلة ذات الأربع سنوات التي كانت تبكي بمجرد أن يحاول أي شخص – سوى أمك – أن يتكلم معك .
كنت أحب أن أطلق عليكِ أسماء عدة وأحبها اليَّ “أرشانة”، لأنني كنت أرى فيك على رغم صغرك آنذاك، إمرأة قوية وذكية لا تقبل بالحلول الوسطى ولا تقنع بالاجابات دون ان تفهمها.
أكتب لك والظروف قدأجبرتنا على أن نفترق، وأعلم تماماً مدى الصعوبة التي تعانيها، في العيش والعمل وحدكِ دون أن تشعري بعائلتك جانبك.
أعرف تماماً الضغوط الكثيرة التي تحملتيها خلال الفترة الممتدة من بداية الأزمة بحلب حتى سفرك قبل أشهر، وأعرف كم اعتمدنا على وجودكِ خلال الأيام الصعبة التي مرت بها حلب، فكانت بسمتك وحتى تقطيب حاجبيكِ ومن حيث لا تدرين، تعطيني ارتياحاً كبيراً.
منذ سفرك لم يتغير شيء، فالكهرباء التي كانت تُقطع عدة ساعات فقط، أصبحت تأتي سويعات فقط.
وتمت إضافة الماء على قائمة الانقطاع ولكن بشكل أفضل من الكهرباء، فهي لا تنقطع بالساعات بل بالايام، ومع هذه الانقطاعات ما زالوا يُتحفوننا بصور بعض المسؤولين “لابسين ومتأستكين على سنكة عشرة” وهم يوزعون قناني الماء، مع ابتسامات تشع من وجوههم أين منها ابتسامات “توم وجيري”.
أصبحت أرى الكبار والصغار يمارسون رياضة حمل بيدونات الماء، كما أن العمل في بيع الماء – وهي من الأشغال التي لا يلزمها ترخيص – فكل واحد أصبح يضع سوزوكي محملاً بخزان ماء ويبيعه، وتذكرت منذ أكثر من أربعين عاماَ عندما كنا نشتري ماء الشرب في اللاذقية لأن المياه الواصلة الى المنازل كانت مالحة ولم تصل مياه نبع السن لها.
ومن الممكن ان يمنحوا بعض أولئك المسؤولين الجهابذة، جائزة نوبل للفيزياء لأنهم استطاعوا إعادة الزمن الى الخلف لأكثر من أربعين سنةً ومن الممكن مع تقدم وتطور الانقطاعات ان يمنحوهم كل جوائز نوبل وخاصة الأدب، لأن أولئك البعض من المسؤولين أبدعوا في كتابة القصص والروايات الساخرة.
أصبحنا الآن نشتري كهرباء من القطاع الخاص دعماً للخصخصة، وغداً المياه، ونحن نعرف أن الصراع المسلح على الأرض هو خارج أرادة الجميع، لكن حلول واكتشافات البعض من المسؤولين لا ترقى الى مستوى الأزمة، لا بل لا ترقى الى مستوى مسؤول من الدرجة العاشرة.
المهم في الموضوع أن الكثير ممن أعرفهم هاجروا مؤقتاً – وأنا واثق أن الغالبية منهم ستكون هجرتهم دائمة، وأنا أعلم ان الهجرة للأقليات بدأت ولكنها مغايرة للمُتوقع، فهي بدأت من الجيل الشاب حيث سافر لمتابعة دراسته، وهو لن يعود الى سورية إلّا قسم طفيف منه، وبعد فترة من الزمن سيهاجر جيل الآباء ليلتحق بأبنائه وستتفرغ المنطقة مباشرة برأي بعد عشر سنوات.
عزيزتي مي..
هذا بعض ما لدينا أحببت أن أنقله لك،…. وأنا لا أستطيع أن اجبرك على العودة في هذه الظروف، لكني أحب أن أترك لك شيئاً من فكري.
مهما جار الزمن علينا فلا يجب أن ننسى سورية.
كوني سوريةً بأخلاقك وعملك وعزة نفسك يا ابنتي
اللهم اشهد اني بلغت