إلا أن هذا لا يطابق مفهوم السر بحسب الإيمان المسيحي. السر المسيحي يختلف بالكلية عن اللغز. عندما يتحدث القديس بولس عن “السر” في رسائله، يستعين بكلمة “ mysterion“. وإذا ما نظرنا مليًا إلى المعنى الذي يستعمل فيه هذه الكلمة لوجدنا أنه لا يشير إلى واقع غامض، بل إلى المشروع الخلاصي الذي كان مستترًا في الله منذ خلق العالم، وقد ظهر في الأزمنة الأخيرة في يسوع المسيح. ولذا فالسر، في وجهة النظر المسيحية، هو رفيق الحقيقة.
فحقيقة المسيحية هي أن الله أحب العالم حتى إنه بذل ابنه الوحيد لكي لا يموت كل من يؤمن به بل تكون له الحياة (راجع يو 3، 16)، وهذا بالضبط هو السر (Mysterion).
يتوقف دستور المجمع الفاتيكاني الثاني “نور الأمم” على هذا السر فيتحدث في العدد الثاني عن “تدبير الآب الأزلي الخفي” الذي شاء أن “يرفع الناس إلى مستوى الشّركة في حياته الإلهية، ولمّا زلّوا في آدم لم يهملهم، بل ظلّ على الدوام حادباً عليهم بأيده الخلاصيّ، من أجل المسيح الفادي “الذي هو صورة الله الغير المنظور، والمولود قبل كل خليقة” (كول 1، 15). ثم إن جميع المختارين الذين سبق الآب فعرفهم منذ قبل الدهور، قد “ميزّهم وحدّد أن يكونوا مشابهين لصورة ابنه فيكون بكراً لأخوة كثيرين” (روم 8، 29)، وإنّ جميع الذين يؤمنون بالمسيح قرّر أن يدعوهم في الكنيسة المقدّسة، التي، بعد إذ بشر بها بالرموز منذ بدء العالم وهيّئت بوجه عجيب بتاريخ شعب اسرائيل والعهد القديم، أُنشِئَت في الأزمنة الأخيرة، وأُعْلِنَت بحلول الروح القدس، وستتم في المجد في اليوم الآخر، وإذ ذاك، كما ورد في الآباء القدّيسين، يجتمع عند الآب، في الكنيسة الجامعة، جميع الصدّيقين منذ آدم، “من هابيل البارّ إلى آخر مختار” (نور الأمم، 2).
ويتابع النص فيتحدث عن دور الابن في السر الخلاصي: “أتى الابن، وقد أرسله الآب الذي اصطفانا فيه من قبل إنشاء العالم،وقضى بأن نكون ابناءً بالتبنّي، لأنه شاء أن يجمع فيه كلّ شيء (أف 1، 5- 10 و 14). وعملاً بمشيئة الآب أنشأ المسيح على الأرض ملكوت الله،وكشف لنا عن سرّه، وحقّق بطاعته فداءنا. وبدأت الكنيسة، أيّ ملكوت المسيح الحاضر حضوراً سريّاً، تنمو بقدرة الله في العالم، نمواً ظاهراً” (المرجع نفسه، 3).
ثم يتحدث عن عمل ورسالة الروح القدس فيقول: “ولمّا أنجز العمل الذي كلّف الآب ابنه تحقيقه على الأرض (يو 17، 4)، أرسل الروح القدس، في يوم العنصرة، لكي يقدّس الكنيسة في استمرار، فيكفل للمؤمنين الدّخول إلى الآب بالمسيح في وحدة الروح (أف 2، 8).فإنه هو روح الحياة، والنبع المتدفّق ماءً للحياة الأبدّية (يو 4: 14،7: 38-39). وبه يعطي الآب الحياة للذين أماتتهما الخطيئة، إلى يوم يبعث في المسيح أجسادهم المائتة (روم 8، 1 – 1).والروح يسكن في الكنيسة وفي قلوب المؤمنين كما في هيكل (1كور 3، 16، 6، 19)، وفيهم يدعو،ولهم يشهد بأنهم أبناء الله بالتبنّي (غلا 4، 6، رو 8، 15 -16 و26). وهذه الكنيسة التي يرشدها إلى الحقيقة كلّها (يو 16، 13) ويكفل لها وحدة الشركة والخدمة الرّوحية، يجهزّها ويقودها بمختلف المواهب، مواهب السّلطة ومواهب المنّة، ويزيّنها بثماره (أف 4، 11- 12،1كور 12، 4،غلا 5، 22)، ثمّ إنه بقوّة الإنجيل يحفظ للكنيسة شبابها، ويجدّدوا في استمرار، سائراً بها إلى تمام الاتحاد بعريسها: ذلك بأنّ الروح والعروس يقولان للرّب يسوع: “هلّم” (رؤ 22، 17). وهكذا تظهر الكنيسة الجامعة “شعباً يستمدّ وحدته من وحدة الآب والابن والروح القدس” (المرجع نفسه، 4).
كل هذا، هو السر الكائن في قلب الله الآب وقد كشف في الزمن في المسيح وفي تدبير الروح القدس اللذين هما “يدا الآب”، بحسب قول القديس إيرناوس المعبر.
يوضح بولس في رسالته إلى أهل أفسس أن سر مشيئة الله هو “ذلك التدبير الذي ارتضى أن يعده في نفسه منذ القدم ليسير بالأزمنة إلى تمامها فيجمع تحت رأس واحد هو المسيح كل شيء ما في السموات وما في الأرض” (1، 9 – 10). وبالتالي فالسر هو حقيقة خلاصية، هو إرادة فداء.
ويشرح القديس أغسطينوس أن السر ليس ما لا يمكن فهمه، بل ما لا يمكن الانتهاء من فهمه. لتوضيح قول أغسطينوس نستعين بالحب البشري الذي هو الواقع الأقل بعدًا عن حقيقة الله، والذي يؤهلنا أن نفهم شيئًا عن الله بالرغم من الاختلاف الشاسع القائم بين حقيقة الخالق وحقيقة المخلوق. إذا ما سألنا شخصًا متيمًا ما هو سبب عشقه لأجاب بأنه يحب محبوبه لهذا السبب أو لذلك، ولكن، إذا ما نظر مليًا إلى سبب حبه، لما تمكن أن يحدد بالضبط الدافع العميق وراءه، هناك بعد سري في الآخر يفهمه مع نموه في الحب ولكنه لا يستطيع أن يصرح إطلاقًا أنه سبر غور ذلك الآخر، أو أنه فهمه “وحفظه غيبًا”. الشخص المتيم حقًا هو شخص يغرم لأجل سبب يفوق كل الأسباب التي يستطيع تعدادها.
الحب يعرف ولكنه معرفته لا تستهلك سر الآخر بل تبقى منفتحة على تجدد سره. لا بل الحب الحق يؤمن أن في الآخر عمق يفوق قدرة المحب على إدراكه بالكلية. ولهذا السبب، لا يتوانى القديس أغسطينوس عن التصريح في شرحه لإنجيل يوحنا: “أعطوني شخصًا يحب وسيفهم ما أقوله”.
لكي نفهم السر لا بد أن نكون متيمين، مغرمين. فمن يعاني من انغلاق داخلي على الحب لن يستطيع أن ينفتح بسلاسة وسهولة على ما هو غير ملموس على السر الذي يتطلب مجازفة – لا بمبلغ من المال، أو ببعض الممتلكات – بل بالوجود بأسره وبالحياة برمتها. وحده الإنسان الذي يستطيع أن ينفتح على وثبة الحب، على الإيروس الإلهي، الذي جعل الله يأتي من سماواته لكي يجتذب إليه كل بشر، وحده هذا الإنسان يستطيع أن
يقبل مجازفة الانفتاح على “السر”.
يقدم الكاردينال هنري دو لوباك صورة معبرة جدًا نستطيع بفضلها أن نفهم بشكل أفضل ما معنى السر، سر الله، في المسيحية. يقول الكاردينال اليسوعي: “إن الإنسان الذي يجهد للتعرف على الله لا يشبه الحكيم الذي يكدس المعارف… ولا يشبه الفنان الذي يكمل تأليف مقطوعة موسيقية. بل إن الروح الذي يسعى إلى معرفة الله يشبه البحار الذي يتقدم في المحيط تحمله الأمواج، شرط أن يترك خلفه بشكل متواصل الأمواج. نتقدم في سر الله محمولين على أيدي الصور والمفاهيم والأفكار، ولكن إذا ما أردنا أن تحملنا هذه الأمواج، لا بد أن نتخلى عنها دومًا، وأن نقول في كل لحظة: هذا ليس الله، الله هو ما وراء هذه”.
ما يقوله دو لوباك هو سهل جدًا، وهو يردد إلى حد ما صدى العبارة الأغسطينية الشهيرة: “إذا فهمته، فهو ليس الله” (si comprehendis, non est Deus). فإذا ما أراد الإنسان أن يعرف الله، لا بد له أن يذهب إلى لقائه ما وراء المفاهيم والأفكار، وذلك لأن الله، بطبيعة الحال، هو أكبر من الفلسفات والأفكار والتعابير البشرية. المفهوم هو مثل الموجة، تساعدني على التقدم إلى الأمام، أما إذا توقفت لديها، غرقت في غياهب الأوثان.
يسوع هو “الحق”، ولكنه في الوقت عينه “الطريق”، لأن معرفة حقيقة الله تتطلب مسيرة تدوم مدى الحياة الأرضية والأبدية. بهذا المعنى تقول الليتورجية المارونية في إحدى صلوات الصباح في زمن الصوم الكبير بأن حياتنا الأرضية هي مسيرة نحو الله وحياتنا الأبدية هي مسيرة فيه. لقاء المسيح الحق يعني “السير في طريق نوره” لأن سر حبه هو سر متجدد يفهمه الإنسان بقدر ما يبقى منفتحًا على فهم جدته وعمقه الذي يفوق الوصف.
وحده المحب يستطيع أن يعي سر الله لأنه يلج فيه بالحب، لهذا يصلي بولس قائلاً: “أجثو على ركبتي للآب […] وأسأله أن يهب لكم، على مقدار سعة مجده، أن تشتدوا بروحه، ليقوى فيكم الإنسان الباطن، وأن يقيم المسيح في قلوبكم بالإيمان، حتى إذا ما تأصلتم في المحبة وأسستم عليها، أمكنكم أن تدركوا مع جميع القديسين ما هو العرض والطول والعلو والعمق، وتعرفوا محبة المسيح التي تفوق كل معرفة، فتمتلئوا بكل ما في الله من كمال” (راجع أف 3).
وعليه نخلص إلى القول، جوابًا على السؤال أعلاه، أن “السر” في الحديث عن أسرار الكنيسة السبعة يعني السبيل إلى الولوج إلى عمق حياة الله. الأسرار هي النعمة وقد شاءت أن تضحي ملموسة، يُمكن اختبارها جسديًا، ماديًا وفي التاريخ. الأسرار السبعة ليست فوازين وحزازير، هي فيض النعمة والمحبة الإلهية التي لا يمكن سبر عمقها وإدراك جوهرها، ولهذا هي “سر”.