عظة البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الراعي – الأحد السادس، زمن العنصرة -الديمان، الأحد 13 تموز 2014

“أرسلكم كالخراف بين الذئاب”

Share this Entry

1. يأتي كلامُ الربّ يسوع في إنجيل اليوم في سياق إرسال الكنيسة رعاةً ومؤمنين، للكرازة بإنجيل ملكوت الله، وشفاء النفوس بطرد الأرواح الشريرة، وشفاء الأجساد من كلّ مرض. لأنَّ رسالةَ الكنيسة والمسيحيّين تنتشر في برّية هذا العالم الخاضع لسلطان الخطيئة والشرّ، فإنّها تلقى الرفضَ والاضطهادَ والاستشهادَ والتعدّي على الأشخاص والحقوق والأملاك. ولهذا قال لتلاميذه: “أرسلكم كالخراف بين الذئاب“(متى 10: 16).

2. يسعدنا أن نحتفل معًا في هذه الليتورجيّا الإلهيّة، فأرحّب بكم جميعًا أنتم الآتين من مختلف المناطق، وأرحّب بنوعٍ خاصّ برعيّة مار رومانوس – حدشيت الحاضرة معنا اليوم، وعلى رأسها كاهنُ الرعيّة الخوري جورج عيد ومعاونوه. فندعو لهم جميعًا ولبلدة حدشيت العزيزة بفيضِ الخير والنعم، لتظلّ شاهدةً للمسيح ومحبّته، حيثما تواجد أبناؤها.

3. في المجتمع والعالم، حيث تسود الخطيئة والظلم والبغض، تدعو الكنيسة إلى الخروج من هذه الحالة السيّئة والدخول في حياة النعمة والعدالة والمحبة، فتلاقي شهادتُها الرفض، ويلاقي أبناؤها الاضطهاد حتى الاستشهاد.

كذلك حيث آحاديّة الإيمان والثقافة، يُرفض الآخر المختلف، وتُحارَبُ التعدّديّةُ وحرّيّةُ المعتقد. وحيث الحرب والعنف والإرهاب، تُقوَّضُ أسسُ السلامِ والحوارِ واحترامِ الحياة وقدسيّتها. وحيث الكذب والتضليل تُرفض الحقيقةُ والصراحة. وحيث النزاع تُرفض المصالحة. هكذا جرى للرب يسوع. ولهذا قال “ما من تلميذٍ أفضل من معلّمه، وما من خادمٍ أفضل من سيده. فحسب التلميذ أن يصير كمعلّمه، والخادم كسيّده”متى10: 24-25).

4. أمام واقع الرفض والاضطهاد والمعاكسات، يدعونا الربّ يسوع للتحلّي بفضيلتَين: الحكمة بمعنى الفطنة أي التنبّه للشر والحيَل باليقظة وأخذ الاحتياط اللازم كالحيّات؛ والوداعة التي تمنح الثقة والطمأنينة، ولا تُضمر أيَّ غشٍّ أو ازدواجية كالحمام (راجع متى 10: 16). ويُضيف: إنَّ الروح القدس يُلهمنا بما نُجيب على الاتّهامات والأضاليل: “فلستم أنتم المتكلّمين، بل روح أبيكم هو المتكلّم فيكم”(متى 10: 20).

5. أمام تفاقم الحقد والبغض وجفافِ المحبة في القلوب، هذه التي تقتحم قلب البيت الصغير بين الأهل وأولادهم وبين الإخوة، والبغض للكنيسة ولرعاتها بسبب إيمانهم بالمسيح، يدعو الربُّ يسوع إلى فضيلةٍ أخرى هي الصبر، أي الثبات في الإيمان والرسالة والشهادة، بقوله: “من يصبر إلى المنتهى يخلص” (متى 10: 22). بفضل هذه الفضائل الثلاث: الفطنة والوداعة والصبر، استطاعت الكنيسة أن تنتشر وتنمو وتبدِّل، شيئاً فشيئاً، وجه العالم. نحن أيضاً اليوم، وسط الصعوبات في لبنان ومنطقة الشَّرق الأوسط التي تتآكلها الحروب، وتُمارَس فيها كلُّ أنواع العنف والإرهاب، مدعوّون لهذا الصمود ولهذه الشهادة، من أجل البلوغ إلى مجتمع أفضل. إنّنا من صميم القلب نصلّي لكي يَمسَّ اللهُ ضمائرَ وقلوب أرباب الحروب في سوريا والعراق والأراضي المقدّسة وفلسطين، لإيقافها، ولإحلال السلام العادل والشامل.

6. المسيح خلّص العالم، والمسيحيّةُ اتّسعت وسع الكرة الأرضية، لا بقوّة السلاح، ولا بقوّة المال، ولا بقوّة السلطة والنفوذ، بل بقوّة التضحية بالذات والمحبة وروح الأخوّة. فعل المسيحيّون ذلك، وما زالوا حتى شهادة الدّم.

الاستشهاد المسيحيّ الذي علّمناه المسيح والذي يبدِّلُ وجه العالم، هو هذا القائم على التضحية بالذات لحياةِ الآخرين وفدىً عن الكثيرين، لا ذاك القائم على التضحية بالذات من أجل قتل الآخرين. إنّه الاستشهاد المبارك الذي يصنع شرف الكنيسة والمسيحية.

7. ما نقوله عن الكنيسة والمسيحية يُقال أيضاً عن الوطن. فهذا لا يُبنى إلّا بتضحيات أبنائه، بدءاً من المسؤولين السياسيّين، لأنَّ في يدهم مقاليد البلاد. المسؤول الحقيقي والجدير بحمل المسؤولية هو هذا الشخص المتجرِّد من ذاته ومن مصالحه، يُضحّي بكلّ شيء من أجل نموِّ البلاد، ويعمل بروح يوحنا المعمدان وشعارِه: “عليَّ أن أنقص وعلى المسيح أن ينمو” (يو 3: 13). فإنْ تتعثّر الدولة ويعمُّ الفسادُ طبقتَها السياسية، فتبدأ بنهب المال العام وسرقة خزينة الدولة، وبالتمسّك بالسلطة عن غير وجه حق، أو بالسعي إليها بطرقٍ غير مشروعة، فذاك بسببالمسؤول الأجير، صاحبِ  المصلحة الشخصية والساعي إليها على حساب الصالح العام. المسؤول القويّ هو، لا الذي يفرض نفسه مسؤولاً، بل الذي يبحث الناسُ عنه ويقيمونه رئيسًا.

8. فليعلم الجميع أنّنا نحن في لبنان، وشعبَنا الذي نلتقيه كلَّ يوم، من مسيحيّين ومسلمين، مُقيمين ومنتشرين، لا نرضى على الإطلاق بهذا الواقع المأساوي الذي بلغ ذروته في حرمان الدولة اللبنانيّة من رئيسٍ لها. ولا يُقنعُنا أيُّ مبرّر بانتهاكِ الدستور والميثاق الوطني ونتائجه على مجلس النّواب والحكومة المتعثِّرَين. ولا نرضى بإذلال المواطنين بعدم منحهم حقوقهم، وبحرمانهم من مقوّمات الحياة الأساسيّة،ولا نرضى ان يكون طلابنا رهينة لهذا الصراع القائم في لبنان، ولا نرضى ان يُحرم شعبنا من مقومات الحياة الاساسية وبخاصّة الماء والكهرباء، والأمن والاستقرار.

ومن المؤسف القول إنّ شعبنا اللبناني الذي يكرّم السلطة ال
سياسيّة ويحترمها ولا يثور عليها في الشارع، بل يطلب منّا أن نطالبها باسمه، لا يلقى من هذه السلطة إلا الاستهتارَ والإهمالَ والاستغلالَ، وصمَّ الآذان عن سماع أنينه، وإغماضَ الأعين عن حالته البائسة، فبات ضائعًا ومشرَّدًا كخرافٍ لا راعيَ لها.

9. من واجبنا، باسم هذا الشعب المجروح في كرامته، أن نسأل المسؤولين السياسيّين ولاسيما السادة النوّاب: إلى متى يُهملون واجبَهم الدستوري الخطير والمُشرّفبانتخاب رئيسٍ للجمهوريّة؟ إنّه الواجب الأوّل على مجلسِ النواب ومجلسِ الوزراء قبل أي عملٍ آخر. ذلك، لكي يستقيم عملُهما، ويتمكّنا من ممارسة مسؤولياتهما التشريعيّة والإجرائيّة، التي يُحييها ويُشرّعها رئيس البلاد، تمامًا كما يفعل الرأس لجميع أعضاء الجسد؟

ونتساءل: أليس صوتُ النائب في انتخاب رئيسٍ للجمهوريّة صوتًا شخصيًّا، حرًّا، مسؤولاً، يكون في خدمة مصلحة الوطن العليا؟ فكيف يوفِّق بين هذه ومصلحةِ الكتلة النيابيّة التي ينتمي إليها؟

ونسأل: هل نوابُنا الكرام في مختلف الكتل مقتنعون بعدم انتخاب رئيس للجمهورية وبتداعياته على كلّ البلاد؟ فإذا كانوا مقتنعين، نقول لهم إنّهم يخونون وظيفتهم وقد وكّلهم المواطنون الذين انتخبوهم لهذا العمل الشريف. أمّا إذا كانوا غيرَ مقتنعين ولا يجرؤون على تحرير صوتهم، خوفًا على مصالحهم، فإنّنا نلومهم. وفي الوقت عينه نذكّرهم بواجب “اعتراض الضمير” وهو عدم الالتزام بما يرَونه ضررًا للبلاد وإساءة للشعب، وتعطيلاً لمصالح الوطن.

ونسأل: لماذ لا يحضر جميع النواب إلى المجلس النيابيّ ويختارون مَن يشاؤون رئيسًا للبلاد من بين المرشّحين علنًا ومن بين غير المرشّحين؟ أإلى هذا الحدّ هم عاجزون؟ وينتظرون، كالعادة، أن يُقال لهم من الخارج إسمُ الرئيس لكي يدخلوا المجلس النيابي ويدلوا بصوت غيرهم، لا بصوتهم الشخصيّ؟ ولئن كان هذا الأمرُ مُخجلاً ومُذلاً للكرامة الوطنيّة، فسنعمل نحن على ما يصون الجمهوريّة اللبنانيّة، ويحمي الدولة، ويحفظ مكانها ومكانتها في الأسرتَين العربية والدولية.

10. كم وبّخ الله وأنذر، على لسان حزقيال النبي، المسؤولين عن الشعب لإهمالهم له من أجل مصالحهم الخاصّة فقط: “ويلٌ للرعاة الذين يرعون أنفسهم… ولا يرعون الخراف. الضعاف لم تقووها، والمريضة لم تداووها، والمكسورة لم تجبروها، والشاردة لم تردّوها، والضّالة لم تبحثوا عنها. وإنّما تسلّطتُم عليها بقسوة وقهر. فأصبحت مشتّتة من غير راعٍ، وصارت مأكلاً لجميع وحوش الحقول… لذلك أطلب خرافي من أيديهم. وأكفّهم عن رعي الخراف، فلا يرعى الرعاة أنفسَهم بعد اليوم. وأنقذ خرافي من أفواههم، فلا تكون لهم مأكلاً… أنا أرعى خرافي (حز 34: 1-5، 10، 15). ويعد على لسان إرميا: “سأقيم على خرافي رعاةً مثل قلبي” (إرميا 23: 4).

إنّنا نصلّي في هذه الأيام العسيرة، حيث يُهمل المسؤولون السياسيّون الشعبَ والوطن، ويتركونه فريسةَ الجوع والقهر، والخطف والابتزاز والتهجير؛ ويفكّكون أوصال الدولة ومؤسّساتها بدءًا من إقفال القصر الجمهوري، وحرمانها من الرأس الذي يعطي الحياة لمؤسّساتها، سائلين اللهأن يُتمّم وعده ويرسل لنا رعاةً، رجالاتِ دولةٍ حقيقيّين، مسؤولين حقًّا، لكي ينهضوا بالبلاد، ويخلّصوها من أفواه آكليها، فيسلم الشعب ويسلم الوطن.

فنرفع المجدوالشكران للثالوث المجيد، الآب والابن والروح القدس، الإله الواحد، الآن وإلى الأبد، آمين. 

*  *  *

Share this Entry

Bechara Boutros El-Rai

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير