في ذلك الدير العظيم ، في نينوى قرب الموصل ، جلس على مقعده ، رسم إشارة الصليب، غمّس ريشته ببعض الحبر ، وكتب للتاريخ :
“الموت فى الجهاد خير من الحياة في السقوط” …
هو مار اسحق السرياني ، ذات ليلة من ليالي العام 670 … في ناحية من نواحي نينوى … في ديره العتيق ، حيث كان يأتي إليه مئات المسيحيين ، ليعلمهم كيف “يحبون القريب أكثر” ، وكيف “يخدمون الفقير أكثر” ، وكيف “يشهدون للحب اكثر ” ، وكيف يحملون النور الإلهي” في برية عاشوا فيها ، يتردد في اذهانهم كل يوم صوت إلههم حين أرسلهم قائلاً :” هاءنذا ارسلكم كالخراف بين الذئاب” … هو شعب لم يخف يوماً لأنه آمن أن “الله معه” ، وأن “الموت في الجهاد خير من الحياة في السقوط”.
هنا بلاد ما بين النهرين …
الحضارة التي حوّلت “المسمار” في يديها ابجدية علم و لغة تفاعل مع الآخر … تماماً كما حوّل يسوع الناصري “المسمار” في يديه ابجدية حب ولغة تفاعل مع الآخر .
الحضارة التي شهدت اول “قانون مكتوب ” في التاريخ … تشهد اليوم انهيار القوانين والشرائع لتسودها شريعة الغاب .
الأرض التي شهدت اول “ثورة زراعية” نقلت البشرية من عصر “اكلة لحوم البشر” إلى “عصر الحضارة المستقرة” … تشهد اليوم تدميراً للحضارة ” وعودة إلى عصر “اكلة لحوم البشر”.
كنائس تحرق ، بيوت تنهب ، شعب يقتل ، يقتلع من جذوره ليرمى “طعاماً لوحوش الأرض”.
اما تستحق مأساة شعب وإبادة جماعية أي تحرك من مجلس الأمن والأمم المتحدة؟ اين جامعة الدول العربية؟ اين الغرب الذي يناضل لحقوق الإنسان؟ قد لا يبقى إنسان “لتكتبوا” له عن حقوق الإنسان … سئمنا كتابات وأوراقا … لم يعد هناك شعب أصلاً ليقرأها أو يسمعها … ألا يستدعي الوضع الكارثي لمسيحيي العراق أي تدخل عسكري – سياسي لمجلس الأمن تحت الفصل السابع؟
إننا اليوم هنا لنقول للجلاد :
نحن متضامنون بتشديد “النون” ، وبتشديد “النون” نحن متضامنون مع مسيحيي العراق.
لن نركع لطغاتك مهما قتلوا… مهما هددوا لن نركع …
قد نترك الأرض … أو ندفن بها … لكننا لن نحيد عن إيماننا ولا “طرفة عين” .
قد نشهد بالحبر ، قد نشهد بالدم … لكننا لن نبيع كرامتنا ولن ندفع “الجزية” لفريسييك ونحن صاغرون .
إننا هنا لسنا “لبنانيين” متضامنين مع “عراقيين” ، بل نحن “جسد واحد” يصرخ ، جسد واحد يصلب ، ضربة الجلاد تضربه في العراق ، فتؤلمه في سوريا ، ليصرخ من لبنان ويقول :
من لبنان … هنا الموصل …
من لبنان هنا معلولا … من لبنان هنا نينوى …
من لبنان ، من بلدي الذي اختزن على مر التاريخ كل ما عانته ذاكرة المسيحيين المشرقيين الجريحة ،
ومن لبنان ، ، ذات يوم من أيام العام 1926 ، مثقلاً بكل تلك الذاكرة النازفة ، في منزله الصغير في بيروت ، جلس على مقعده ، مفكر “كلداني عراقي” ، غمّس ريشته ببعض الحبر ، وكتب للتاريخ :
“الدستور اللبناني” وفلسفة الصيغة الفريدة في تعايش الأديان ، إنه “الكلداني العراقي” والنائب اللبناني ميشال شيحا الذي ربما لا يعرف الكثيرون انه هو من وضع “الدستور اللبناني” وهو من وضع بنفسه “الألوان الثلاثة” للعلم اللبناني وهو من عرف أن عظمة شعب لبنان تكمن في أنه جمع كل حضارات المشرق العظيمة ،من رومية وسريانية واشورية وكلدانية وارمنية وعربية ، من مسلمة ومسيحية ، وأعطاها كامل الحقوق ، لذلك صرخ وقال :
“لبنان بلد صغير طبعا
وطن صغير، ربما،
لكن شعب صغير، ابدا..”. ربما كان يعلم علم اليقين أن مصير المشرق سيكون غارقاً في الدماء من غزة إلى دمشق إلى الموصل … ومن اورشليم إلى كسب إلى صدد إلى نينوى …” إن لم يعط “لكل طائفة حقها” في أن تتمثل وتتفاعل مع الآخر بندية وسواسية .
ونحن من هنا نقول لمسيحيي العراق، لروح ميشال شيحا ، لروح مار اسحق السرياني ، لأرواح ملايين الشهداء :
أنتم تضطهدون ، طبعاً ،
تصلبون ، ربما ،
لكن ستنتهون ، فلا وألف لا … بل ستقومون في اليوم الثالث ” وتطأون الموت بالموت ، وتملأون الأرض حباً ونوراً وعدلاً وحياة.