تنقسم الحياة الروحية الى عدة درجات، لا يمكن فهم كل من هذه الدرجات بشكل عميق، إلا عند عيشها وتجربتها وبالأخص عندما نترقى من درجة الى أخرى.
إن الإنسان الذي لم يختبر الدرجات الأولى من الحياة الروحية، هو ذلك الإنسان الذي ليس لديه ثقة بالله، أو أن ثقته خفيفة جداً بالرب، وعند أقل هزة فإنه يقع!
وأيضاً هو ذلك الإنسان الذي يعيش بحالة مطالبة دائمة، ويريد أن يحصل فوراً على مبتغاه. على الرغم من أن هذا الإنسان يرى عمل الله بشكل واضح، لكنه لا يريد أن يقبله، وإنما يسعى دوماً بطلبه لإحراج الرب. هذه الحالة هي حالة الفريسيين الذين كانوا دوماً يرون آيات يسوع، ومع ذلك كانوا “يحاورونه طالبين منه آية لكي يحرجوه” (مر 8/11).
أو أيضاً حالة الإبن الكبير الذي كان تعامله مع أبيه على أساس “أنا أخدمك سنين هذا عددها وقط لم أتجاوز وصيتك وجدياً لم تعطني قط لأفرح مع أصدقائي” (لوقا 15/29).
إذاً، كل إنسان يكوِّن صورة أو مجموعة صور عن الله، على حسب أهوائه، تكون حاجزاً يجعله لا يتعرف على صورة الرب الحقيقية عندما تتجلى أمامه، مما يدفع بذلك الإنسان الى التعامل مع الله على أسس خاطئة :”أعطيك الصلاة والصوم … فأعطني …”، “لماذا يصير معي هكذا ؟”، “ماذا فعلت لك يا الله حتى تبليني بهكذا مصيبة ؟”، وغيرها من التساؤلات …
ومع رؤية الله من خلال هذه الصورة المشوهة، فإن هذه الصورة تتشوه أكثر فأكثر، عندما نرى الرب “صامت” (“الحق أقول لكم لن يعطى هذا الجيل آية” مرقس 8/11) أمام “مطالبنا”، فنقطع علاقتنا معه نهائياً، هذه العلاقة التي كانت أساساً ضعيفة، وغير مبنية على الثقة، دون أن نسمع “فتنهد بروحه” (مرقس 8/11)، وكأن الرب يريد أن يقول لنا من خلالها :”أمام كل ما فعلته لأجلك، ما زلت تطلب آية لتؤمن بي وتضع فيّ ثقتك، وكل ذلك من خلال إحراجي؟”. (الآية لا تجلب الإيمان بل الإيمان هو الذي يجلب الآية، وهذا صحيح لأن كل الآيات التي صنعها يسوع كانت بسبب إيمان الإشخاص الذين حصلوا عليها، ولا ننسى عبارته :”إذهب إيمانك شفاك”، “لو كان لكم إيمان كحبة خردل، فإنكم تستطيعون أن تنقلوا هذا الجبل وتلقوه في البحر” …)
من هنا، يستطيع الإنسان رؤية مدى قوة علاقته مع الله، من خلال سلوكه وردات فعله أمام كل حدث في حياته مهما كان هذا الحدث صغيراً وبسيطاً، فهو طالما يسأل الـ “لماذا ؟”، فهذا معناه أنه لا يزال في الخارج، ولم يطأ بعد عتبة الحياة المسيحية الحقيقية.
إن كل حدث في حياة الإنسان مفرحاً كان أم محزناً، لا نستطيع أن نفهمه إلا بعد مرور الزمن عليه، لكن تسرّع الإنسان ورغبته في معرفة السبب مباشرة، يسيء العلاقة مع الله.
إن الخطوة الأولى للدخول في الحياة الروحية هي تغيير الموقف من الله، أي تسليم الإنسان نفسه بكليتها لله، ووضع ثقته التامة والكاملة فيه، وذلك بجعله قائداً على حياته، فلا يقدم على شيء أي شيء إلا بمعونته.
من العلامات التي تظهر أني فعلاً قد خطوت الخطوة الأولى على الطريق الروحية :
– عدم طرح السؤال “لماذا ؟”، أمام الأحداث التي تحصل لي، لأني واضع ثقتي بالله. فتكون الحكمة أن ألتزم الصمت لأني سوف أفهم بعد مرور الحدث. تماماً كما أننا نتعامل مع الأطفال الذين لم ينضجوا بعد، فنحن لا نخبرهم بكل شيء حتى لا يذيعوه عن عدم فهم ووعي، هكذا الله في تعامله معنا فهو لا يخبرنا إلا حين ننضج لئلا نستهزئ بسبب عدم وعينا.
– عدم إيقاف الصلاة أمام أي شيء (خطيئة، موت، مصيبة …)
– عدم الإستسلام للمبادئ التي تنمي فيَّ “العقلانية”، أي أن أرى كل الأمور من خلال العقل.
– عدم القبول بحالة الإستقرار لأن المؤمن الحقيقي هو الذي يسعى دوماً.
– عندما أذهب الى الله لكي أفهم، وليس “أريد أن أفهم كي أذهب الى الله”. فأنا لا أستطيع أن أفهم شيئاً إذا لم يكشفه هو لي (تلميذي عمّاوس)
– عندما أرفض الوضع الذي أنا فيه وأقاومه، كأن لا أطيق الصلاة لأنها تضجرني …
– عندما لا أغضب ولا أثور.
– عندما أمارس إيماني عن قناعة ومبادرة ومن القلب، وليس كواجب مفروض عليّ .
الحياة الروحية مسيرة يومية مع الرب، ننطلق منه لنتحد فيه.