1. تذكر الكنيسة، في هذا الأحد وطيلة الأسبوع، عيد تجديدها، إستعدادًا للدخول في زمن الميلاد، المعروف بزمن انتظار مجيء الرب المسيح في حياتنا اليومية، هو الذي “أتى ليجعل كلَّ شيءٍ جديدًا“(رؤ21: 5). إنّه يجدّدنا، أفرادًا وجماعات، بكلام الله وتعليم الكنيسة، وبنعمة أسرار الخلاص، وبالمحبّة التي سكبها في قلوبنا بهبة الروح القدس. اليوم “حان عيد تجديدنا” من أجل حياةٍ ذات قيمة، ومن أجل مجتمع بشريّ أفضل، ومن أجل دولة أكثر عدالة وسلامًا وحضارة.
2. يسعدني أن أحيّيكم جميعًا وأرحّب بكم وبخاصة بالبرلمانيين الكاثوليك الدوليين الحاضرين معنا وقد جاؤوا مع آخرين وعلى رأسهم الكردينال Schonborn، ليشاركوا غدًا في افتتاح دورة مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان. ونحيّي من بين الحاضرين ، التابعة لكنيسة السيدة – رأس الدكوانه، وحركة الأرض اللبنانية. كما نرحّب بسيادة أخينا المطران عاد أبي كرم مع عدد من أعضاءمؤسّسة Apostolicaالتي تطلق رسميًّا في هذا القدّاس مشروع إنجيل التطويبات، وهو دستور الحياة البشرية، الذي أعلنه الرب يسوع من على الجبل المطلّ على بحيرة طبريّه، كمدخل لتجديد صورة الله في الإنسان، ولجعل المجتمع البشري أكثر تضامنًا وخدمة ومحبّة، والدولة أكثر عدالة ونموًّا وسلاما.
لقد وضعت مجموعة Apostolica المؤلّفة، برئاسة المطران عاد أبي كرم، من كهنة ورهبان وراهبات ومؤمنين ومؤمنات، دراسة موسّعة لإنجيل التطويبات، تتضمّن شرحًا لاهوتيًّا وروحيًّا لكل تطويبة من التطويبات التسع، مع ارتباطها بالمزامير؛ واستخراجًا للفضائل الروحية والإنسانية والاجتماعية المتحدّرة منها، بالإضافة إلى خواطر روحية حول كل تطويبة. كما وضعت رتبة احتفال بالكلمة للجماعة التي تلتقي للتأمل في هذه التطويبات، أكانت في الرعايا والعائلات والمنظمات الرسولية وسواها، أم في برامج دينية تنقلها وسائل الإعلام.
أمّا نحن فقد بدأنا في برنامج التنشئة المسيحية، بتخصيص تطويبة لكل شهر، على مدى تسعة شهر. وها نحن نتأمّل ، طيلة آحاد شهر تشرين الثاني، في التطويبة الأولى: “طوبى للفقراء بالروح فإنّ لهم ملكوت السماوات”(متى5: 3). وهدفنا تكوين ذهنية جديدة تتّصف بروح إنجيل التطويبات، من أجل تجديد وجه عالمنا.
3. إنّنا نرفع معكم ذبيحة الشكر لله على الزيارة الراعوية التي قمنا بها إلى أبرشيتنا المارونية في أوستراليا. وقد نقلت وقائعها إليكم وسائلُ الإعلام اللبنانية التي رافقتنا مشكورة، كما نقلتها إلى كلّ المجتمع الأوسترالي المؤسّسات الإعلامية اللبنانية هناك. ونجدّد من هنا الشكر من صميم القلب لسيادة أخينا المطران أنطوان – شربل طربيه، راعي الأبرشية، الذي دعانا للقيام بهذه الزيارة الراعوية ونظّمها بأكمل تنظيم مع الكهنة والرهبان والراهبات، مع الرعايا والأديار والمدارس والمؤسسات الاجتماعية، ومع فاعليات جاليتنا وسائر أبنائها وبناتها، ومع اللجان المتطوّعة. لقد وجدنا، بفرح واعتزاز، أبرشية حيّة، منظّمة، تنضب حيويّة إيمانيّة وروحية، وتتألّق بوحدتها وتضامنها، والتفافها حول أسقفها بثقة كبيرة ملحوظة. وشاهدنا على الوجوه وفي الأفعال فرحَ الكهنة والرهبان والراهبات وغيرتهم الرسولية. أمّا أبناء كنيستنا المارونية وبناتها والعائلات فهم مدعاة فخر وارتياح، لمواظبتهم على ممارسة العبادة وقدّاس الأحد، بأعداد تكتظّ بها كنائسُنا الكبيرة.
وذكرنا بالصلاة والخير رعاة الأبرشية الثلاثة الأُول الذين أسَّسوا ونظّموا وبنَوا، وهم: المثلّث الرحمة المطران عبده خليفة، والمطرانان يوسف حتّي وعاد أبي كرم، أطال الله بعمرهما، وكافأهما خيرًا.
4. وزادنا فرحًا كنسيًّا لقاؤنا مع السادة المطارنة رؤساء الكنائس الشرقية، الكاثوليكية والأرثوذكسية، وكهنتها. وهم يؤلّفون معًا مجلسًا يعقد اجتماعات شهرية لتنسيق عملهم الراعوي والكنسي. وأُسعدنا بلقاء أبناء كنائسهم في كلّ المناسبات، وهم من لبنان وبلدان الشرق الوسط، ولاسيما من سوريا والعراق والأردن ومصر وفلسطين. إنّنا نوجّه إليهم تحيّتَنا وشكرنا، ونؤكّد لهم محبّتنا وصلاتنا.
وكم سُررنا بلقاء سماحة المشايخ من المسلمين السنّة والشيعة ومن الموحّدين الدّروز، وأبناء طوائفهم، وبلقاء الأحزاب اللبنانيةالمتواجدة هناك.
5. لقد عشنا معهم جميعًا فرح اكتمال وجه لبنان، المميَّز بتعدّديّته الثقافية والدينية، التي تجعل منه بلدًا ديمقراطيًّا منفتحًا على جميع الأديان والثقافات والحضارات. بفضل هذه الميزة اللبنانية، إلى جانب ما حبا اللهُ الإنسانَ اللبناني من روح خلاّق وطموح دائم إلى العلو، إستطاع أبناءُ جالياتنا من تحقيق ذواتهم، والبلوغ إلى القمم على كلّ صعيد. وتشهد لهم السلطات الأوسترالية، المدنية والكنسية، بأنّهم المساهمون الكبار في نمو أوستراليا وازدهارها، إقتصاديًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا وثقافيًّا وروحيًّا.
6. وأودّ الإعراب عن الشكر للسلطات الأوسترالية، وبخاصة الأمنية منها، على توفير الحماية والمواكبة بشكل مثالي ملفت، وبحرارة إنسانية، هي من ميزة الأوستراليين.
7. “حان عيد التجديد“(ي
و10: 22). نجتمع معكم في هذه الليتورجيَّا الإلهية، حول المسيح الرب الذي يجعل كلَّ شيء جديدًا(رؤ21: 5)، ويدعونا للتجدّد الذي يشمل الجميع في العائلة والكنيسة والمجتمع والدولة، من خلال العودة إلى كلام الله الذي ينير واقعات حياتنا، وإلى شريعته ووصاياه التي ترسم لنا الطريق السليم، وإلى الأمانة للدعوة والرسالة. الكنيسة هي دائمًا في حالة تجدّد، تعيشها بالأمانة إلى ما كانت عليه الجماعة المسيحية الأولى الموصوفة في كتاب أعمال الرسل: “كان جماعة المؤمنين مواظبين على تعليم الرسل (الانجيل وتعليم الكنيسة)، وعلى الصلاة وكسر الخبز (قداس الأحد)، وتقاسم ما يملكون. إنّها الخدمة المثلّثة: خدمة الكلمة بالكرازة والتعليم؛ وخدمة النعمة بالتقديس وتوزيع أسرار الخلاص؛ وخدمة المحبة بالتدبير وتنظيم حياة الجماعة المسيحية والاعتناء بالفقراء والضعفاء.
8. تلتئم طيلة الأسبوع الطالع دورةُ مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان بموضوع: “العائلة المسيحية، واقعُها ورسالتها“. إنّه يندرج في إطار تجديد العائلة بكلّ أبعادها الروحية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. فنرجو أن ترافقونا بصلواتكم لكي نضع الخطّة اللازمة للمحافظة على العائلة المسيحية، ولتعزيز حياتها ورسالتها. أما على مستوى تجديد الكنيسة، بأفرادها وجماعاتها ومؤسّساتها، فإنّنا نتابع تطبيق تعليم المجمع البطريركي الماروني وتوصياته.
9. في إطار الدعوة الشاملة للتجدّد، يدعو قداسةُ البابا فرنسيس إلى التجدّد في الدولة. هذا التجدّد يبدأ أولاً في الجماعة السياسيّة وفي الذين يتولَّون السلطة العامّة، بحيث يكونون أصحاب روحانية وخلقيّة، مميَّزين بروح التجرّد والالتزام في خدمة الدولة بشعبها ومؤسّساتها، بأرضها وثرواتها الطبيعية، لكي يتأمّن الخيرُ العام الذي هو المبرّر الوحيد لوجود الجماعة السياسية والسلطة العامة. فالخير العام يؤمّن كلَّ الشروط الاقتصادية والتشريعية والثقافية والإدارية والقضائية، لكل مواطن وللجماعة الوطنية، من اجل توفير عيشٍ كريم، يمكّن المواطن، كلَّ مواطن، من تحقيق ذاته وتحفيز إبداعه على أرض الوطن.
من واجبات الجماعة السياسيّة والسلطة العامة، يقول البابا فرنسيس، بناء شعب موحّد ومتضامن ومميّز بولائه للدولة وللوطن، لا مجموعات مشرذمة تستعبدها قوى نافذة ومتسلّطة. فالمواطَنة المسؤولة فضيلة، والمشاركة في الحياة السياسية واجب أدبي، من اجل صيرورة المواطنين شعبًا مسالمًا وعادلاً وأخويًّا، عبر مسار دائم يجد فيه كلُّ جيل جديد نفسه ملتزمًا بثقافة اللقاء والعيش معًا بتناغم وانسجام وتكامل(راجع فرح الانجيل، 219-220).
10. من المؤسف حقًّا أن لا تكون الجماعة السياسية والسلطة العامة في لبنان قد بنت شعبًا موحَّدًا بولائه للبنان ولمؤسّساته الدستوريّة. بل شرذمته وقسّمته وجعلت ولاءه لأشخاص لا للوطن. فلا بدّ من أن يعمل المجتمع المدني على تكوين هذا الشعب، بالتعاون مع المدارس والجامعات، بعيدًا عن الانقسامات والألوان السياسيّة. لا يمكن أن يستمرّ لبنان في هذه الحالة من التشرذم بسبب لعبة النافذين السياسيّين، والكلّ على حساب الدولة والمؤسّسات والشعب. وبات من الواجب أن يأخذ المجتمع المدني بزمام الأمور في ما يختصّ بوحدة الشعب، وترقّي المجتمع، وحماية مكوّنات الوطن، عن طريق الثقافة والأخلاقيّة والالتزام بتكوين شعب توحّده الحقيقة والحرية والولاء للوطن، ويفرز قادة جددًا للبلاد يكونون حسب قلب الله، ويحكمون بالخير والعدل لجميع الناس.
وإنّنا نصلّي إلى الله لكي يبعث من أبناء شعبنا مسؤولين يتحلَّون بفضيلة التجرّد والتزام الخير العام، التي يدعو إليها الرب يسوع في التطويبة الأولى “طوبى للفقراء بالروح، فإنّ لهم ملكوت السماوات“(متى5: 3). إنّها فضيلة الافتقار من الذات والاغتناء بالله وبالقيم الروحية والأخلاقية والإنسانية من أجل الدخول في شركة الاتحاد بالله والوحدة مع جميع الناس بروح الخدمة والعطاء. للثالوث المجيد، الآب والابن والروح القدس، كلُّ مجدٍ وتسبيح الآن وإلى الأبد، آمين.