في هذه الحلقة (16) ، سنتطرّق لنقطتين : إزاحة حبّ الأهل و القلق والضغوط .
إنّ النظرة الطفوليّة على الأشياء تتميّز بثلاث صفات : القلق ، التعلّق ، والعادة . وهذه كلّها كامنة في الذاكرة . فعندما تشكّل المرأة شيئا ساحرًا على الشاب ، ليس في سِحرها سوى ” الغرابة ” التي تنبعُ من الصورة التي يحملها الشاب عن أمّه ، أي أنّ تلك الصورة القديمة لا زالت عاملة عنده . ” لماذا يعشق الرجل هذه المرأة أو تلك أكثر من غيرها يا ترى ؟ “
لأنّ فيها ما يتطابق مع ما في ذاكرته عن أمّه (وينطبقُ ذلك عليها أيضا فيما يخصّ أبيها) . تكفي بعض الخطوط المتشابهة بين الواقع والصورة اللاواعية لكي تنتفض العواطف من مكامنها وتتحوّل إلى عواصف وتخيّلات وأفكار وتصرّفات كان قد عاشها قبل هذا الحدث ببضعة سنوات في طفولته .
حلّل العالم النفسانيّ (كارل جوستاف يونغ ) استيقاظ هذه الصورة والتحوّل الذي يجري عليها تحليلا ممتازا ، على أثر ما كان فرويد قد عالجه أيضا في أحد كتبه : يقول أنّ التحوّل العاطفيّ لا يشملُ الحبيب ، إنّما هو “ مسلسل تكرار ” ، تتميّز به الطفولة . والقوّة التي نشهدها في هذا النوع من الحبّ ، قد تكون جيدة أو سيّئة ، بنّاءة أو هدّامة . المهمّ أن نعرف أنها لا تطال من الحبيب إلاّ الظاهر ، فهي كالمرايا تنعكسُ عليه فيصير الحبّ ، في هذه الحالة ، تراجعًا ، فيستسلم لهلوساته ، تابعًا ، قلقا ، لا يرى شيئا من حقيقة حبيبه ولا من واقعه .
هذا النوع من الحبّ الخياليّ ، هارب من الواقع ، لأن فيه كميّة كبيرة من ” النرجسيّة ” ، أي الأنانيّة الطفوليّة (وهناكَ فرق كبير بين أنانيّة الطفل وأنانيّة الرجل البالغ ـ أي حبّه الناضج لنفسه) ؛ فالطفل لا يحبّ أهله إلا بدافع الحفاظ على وجوده ، هذه الأنانيّة يسمّيها فرويد ” النرجسيّة البدائيّة ” .
أن مَن يبقى على هذه النرجسيّة ، يوظف كلّ طاقاته على موضوع حبّه ، نكتشف ذلك من خلال الجروح والخيبات التي يعاني منها المحبّ حالما يجرؤ حبيبه على الإبتعاد عن مطاليبه الطفوليّة . هذه المطاليب هي دعامات حبّه . فيتحوّل الحبّ إلى عتاب ومرارة ، ونكد وانتقادات مبالغٌ بها ، وقد يصل به اليأس وإلى الإبتزاز العاطفيّ ، والتهديد بالويل وعظائم الأمور ، ولا يجد السلام إلاّ بعودة الحبيب إلى حلقة التصرّفات المعقولة والمقبولة من قبله . بمعنى آخر ، مَنْ يُمارس ” حبّ الإزاحة ” عاجز عن تقبّل الآخر قبولا فعليّا حقيقيّا : وهو من خلاله لا يحبّ إلا نفسه . وإذا دعاه أحدنا ” أنانيّا ” ؛ فالأنانيّة هنا لا تعني سوى ” صراخ الألم ” الذي يطلقه ذاك الذي يرى ” الأنا ” عنده محصورًا داخل العجز ، تحت ضغط ما يؤذيه بتكرار .
هذه الأنانيّة هي ، في الحقيقة ، نرجسيّة غير نابعة من إرادة الأنا الذي يريد أن يفرض نفسه ، ولكنّها نابعة من ” أنا مضغوط ” محصور ، صغير ، عاجز ، وضعيف . ليس لديه سوى صورة الأهل وسهمًا مسمومًا رشقه به إله الحبّ ، حبّ الطفولة المتخاذلة .
خيّبت آمالي .. أنت خطأ حياتي ..
لو أردنا أن نرسم صورة واضحة للإزاحة العاطفيّة من ناحية القانون الكنسيّ ، أو اللاهوت الأدبيّ ، لقلنا أنّ الزواج باطلٌ إذا كان تحت ضغط أو خوف ، أو إذا كان هناك توهّم في الشخص (ويحصلُ البُطلان الزواجيّ في بداية العلاقة ، إن كانت العلاقة أساسُها باطلٌ وحصل كذبٌ ونفاق وتزويرٌ في العلاقة ) . هذا القانون يعود إلى سنة 1917 ، سُنَّ لظروف اجتماعيّة وأعراف ظاهريّة . لكن ما العمل إذا كانت المسألة داخليّة ، نفسانيّة ، كما في حالة الإزاحة العاطفيّة ؟
ما العمل عندما يقول أحدهم أنه تورّط في الحبّ ، وأنه لم يكن واعيًا آنذاك . أو أنه كان شابّا متهوّرا ؟ إن أيّ دراسة للإزاحة ستوضّح لنا أنّ المسألة ليست مجرّد غرائز ، ولكنّها أقوى من ذلك . أنها نابعة من خوف يجعل الرؤية سيّئة بالتمام . في الإزاحة العاطفيّة ، يلعب القلق دورًا أساسيّا . ومع تقدّم العمر ، يتخلّص الطفل من ضغط الصور الوالديّة ، يحدث ذلك عندما يختفي الخوف منهم ، الخوف أو الشعور بالذنب ، أو الخوف من القصاص ، كلّها أكتسحت طفولته وشلّت نموّه النفسانيّ . فهو آنذاك كان يوجّه كلّ طاقاته لكي يشبههم ، وهم ألحّوا بإفراط على التعليمات والممنوعات والمطاليب النفسيّة . وهو ، لكي لا يفقد أهله العظام جدّا بالنسبة له ، ولكي يتخلّص من أقبح أنواع العقوبات : القلق ، والخوف من خسارتهم ، خضع بيأس ٍ لصورتهم الوالديّة إلى درجة جعلته مسحوقا تحت تلك الصورة .
من هنا ، نفهم سلوك بعض البالغين اللاحق ، عندما يحاولون أن يجدوا أنّ الشخص الحبيب بديلا عن الأب والأمّ الذين ضاعا . نفهمُ الكآبة التي تجتاحُ من يتعلّق بشخص معيّن يخاف أن يفقده فيشعر أنه يصير بالتالي لا شيء بدونه .
يتبع