رأينا سابقا في الحلقة (16) ، عندما يحاولُ ، بعض البالغين ، أن يجدوا في الشخص الحبيب بديلا عن الأب والأمّ الذين ضاعا . و الكآبة التي تجتاحُ من يتعلّق بشخص معيّن يخافُ أن يفقده فيشعر أنه يصير بالتالي لا شيء بدونه .
الزواج ، في هذه الحالة ، يشكّل خطأ جسيمًا ، لأنه إزاحة واضحة . فالتي يتزوّجها (أو تتزوّجه) ليست هي بالذات التي يراها . فالإزاحة أمل كاذب ورؤية خاطئة تزحف من الأهل على القرين . الكذب هنا ، هو في عدم التطابق مع الحقيقة الموضوعيّة . وقد يتصوّر من ينظر من الخارج أنّ الإزاحة متعمّدة ، لكن الأمور لا تسيرُ في الوعي ، بل في اللاوعي ، وليس للآخر دخل في هذا الهيام والغرام ، المسؤول عنه هو ” الصورة الأبويّة ” . اللاوعي يلعبُ الدور الأوّل والأخير ، وليس هناك أيّ وعي وأيّ عقل ٍ يعمل .
هاكم بعض الأمثلة على الإزاحة فلعلّ هناك من يشكّك في وجود الإزاحة ، لأنّ غالبيّة الناس تؤمن وتعتقد أنّ الحبّ والغرام شيئان مترادفان، بينما هما في الحقيقة متعاكسان : فالإزاحة النابعة من حبّ الأب والأم تتمّ دون تدخّل من الحريّة ، وهذا ممكن . ونحنُ هنا لسنا في صدد نظريّة في الهواء . الأحداثُ تفسّر ما نقول : من مِنّا لم يسمع بقصص كمثل هذه المرأة التي تركت أولادها وزوجها وذهبت وراء رجل أغراها ، ليس فيه أيّة صفة مقنعة ، قد يكون سائق الدائرة الفلانيّة ، وحتى قد يكون متزوّجا ، تاركة ً كلّ من يعرفها ، ويعرف عائلتها وتربيتها في ذهول . فتعيش في تعاسة ٍ وخطورة ، وتفقد كلّ ما كانت قد جمعته من أرصدة ٍ خلال حياتها .. قد يأتيني زوجها (أو أبوها) ويقول أنها كانت ضحيّة سحر أو غسل دماغ أو تنويم مغناطيسيّ … !
ما هو سبب هذا الإنهدام الداخليّ الذي يحدث لهذا الشابّ الذي يركضُ كالأعمى وراء ابنة الهوى رغم تحذيرات الكلّ؟ ما سبب تعلّق هذه الفتاة بشابّ لا خلق له ولا أخلاق ، والذي يسومها أصناف العذاب ، لماذا تبقى أمينة له ، وهي لا تتلقّى منه أيّ طيبة؟!
هذه الأمثلة تبيّن أننا ، في الحقيقة ، نرفع إلى الغيوم ، في إعجابنا ، أشخاصًا كما كنّا نفعل في طفولتنا مع أبينا وأمّنا ، ونضحّي بالغالي والنفيس من أجل تلك ” الصورة ” إنه : إفلاس الحبّ ، الذي قلّ مَن إستطاع أن يفهمه ، أو يحلّله قبل مجيء العلوم النفسيّة . إننا نرى العكس لدي الناس ، أو في الكتب الأدبيّة ، نراها تشيدُ بحبّ هؤلاء وولائهم وإخلاصهم ، وهي توجّه اللوم والتُهَم لِمَن لا يستجيب لمثل هذا الحبّ، أو تنصحه على الأقلّ بانتهاز الفرصة ، فيقع في ورطة أكبر .
وصلنا إلى مرحلة أصبح فيها لزامًا علينا أن نقرّ بوجود ” الإزاحة العاطفيّة اللاواعية “ . يمكننا الآن أن نتقدّم خطوة إلى الأمام فنقرّ ، أنّ بعض الزيجات ليست اتحاد رجل وامرأة ، بل أنها زواج صورتين لأهلهما . وأن لا أحد منهما حين الزواج بإمكانه أن يتوقّع ما بإمكانه أن يحدث لاحقا ، فكلاهما غير واعي بالإزاحة ، وحتى الأهل أو الأقارب لا يمكنهم أن يتخيّلوا ذلك . والكاهن أيضا ، الذي يبارك زواجهما ويقبل موافقتهما ، فهو وإن كانَ مثقّفا وواعيًا لا يمكنه أن يكشف بسهولة ما يحدث في أعماق كلّ من المتزوّجين . فقد تدوم الإزاحة طوال الحياة ، فيعيشُ أحد الزوجين مع قرينه دون أن يتطوّر في العلاقة أو يتغيّر ، منذ زواجه وحتى موته . هذا التطوّر قد يكلّف آلاما وأتعابًا لا يريدُ الذي يتزوّج عن إزاحة عاطفيّة ، أن يعترف أنه يعاني منها . هكذا تقفُ زواجاتنا على أقدامها بالصدفة فيقول الناس : قسمةٌ ونصيبْ ، والزواج حظوظ .
من الناحية القانونيّة ، لا يمكننا أبدًا أن نقبل بأن يكون الزواج ” قسمة ونصيب ” . ولا حتّى أن يصير الزواج إجباريّا أو شرّا لا بدّ منه على الإنسيان أن يجرجره طوال حياته .. ما أكثر ما نسمعُ آهات المتورّطين فيقولون : ” آه ٍ لو كنتُ أعرف … ” ، ” الله لا يعطي لمن كان السبب … ” الخ . يتبع