"عندما رأوا النجم، فرحوا فرحًا عظيما" (متى 2: 10)

عظة البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الراعي – الأحد بعد الميلاد – أربعين الشهيدَين صبحي ونديمة فخري- بتدعي، الأحد 28 كانون الأوّل 2014

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

1. نجمُ المسيح اقتادَ المجوس، علماءَ الفلك، من بلادِ فارس البعيدة، منطقةِ إيران اليوم، إلى بيت لحم، واستقرَّ فوق البيت حيثُ كان الطفلُ يسوع، الملك الجديد المولود. ومن بعد أن اختفى عنهم فوق أورشليم واضطرّوا إلى إعلامِ هيرودس الملك وسألوا عن مكانِ المولود الجديد، وما إن قيلَ لهم في بيتَ لهم، حتى عادوا ورأوا النجم. و”عندما رأوه، فرحوا فرحًا عظيمًا“(متى 2: 10). لكنّ فرحَهم اغتيل فيما بعد بمقتلِ جميعِ أطفال بيت لحم من عمرِ سنتين فما دون، بأمرٍ من هيرودس الخائفِ على عرشِه (راجع متى 2: 16). أمّا نجمُ المسيح فظلَّ ويظلُّ، على مدى الأجيال، يقودُ إليه المؤمنين والمؤمنات في ظلماتِ الحياة، ويزرعُ في قلوبِهم الفرحَ والرجاء.

2. جئنا إلى بتدعي العزيزة مع سيادةِ راعي الأبرشية المطران سمعان عطالله والسَّادة المطارنة الحاضرين، وهذا الجمهور من الكهنة والرهبان والراهبات والمؤمنين، لنحتفلَ بقّداس الأربعين لراحة نفس الشهيدَين صبحي ونديمة فخري، اللَّذَين وقعا ضحيّةً بريئةً أمام باب بيتهِما برصاصِ مجرمين ينتمون إلى عائلة آل جعفر، أبناءِ هذه المنطقة، كان الجيشُ يطاردهم، وكانوا يحاولون الاستيلاءَ على سيارات Jeepبالخاصّة بالعائلة للهرب بها والتمويه، وذلك في صباح السبت 15 تشرين الثاني الماضي.

جئنا لنجدّدَ التعازي الحارّة لأبناء وابنتَي المرحومَين الشهيدَين وعائلاتهم، ولأنسبائهم جميعًا ولآل فخري الأحبّاء، ولعائلاتِ بتدعي ومنطقة دير الأحمر، ونصلّي من أجلأن يكونَ نجمُ الوالدَين الشهيدَين ساطعًا من السماء في حياتهم، كما كان ساطعًا أمامهم في أرضهم، بل بأكثر فعالية بفضلِ الحضور الإلهي؛ وأن يقتادَهم نجمُ المسيح إلى العزاءِ الحقيقي وإلى دروبِ الخيرِ والفرح والنجاح؛ وأن يكشفَ نجمُ العدالةمرتكبي الجريمة لكي يعودوا بالتوبة الصادقة إلى الله، ويفتحوا المجالَ للمصالحةِ والغفران معم ومع أهلهم وآل جعفر الذين نخالُهم يقبّحون هذه الجريمة، ولكي تنعمَ هذه المنطقةُ البقاعيّة بالسلام وطيب العيش معًا.

3. في ظلمات الحياة الشخصيّة والاجتماعية والوطنية، نبحثُ دائماً عن نجم المسيح، هذا النور الذي سطع أيضاً في ظلماتِ اللِّيل في أجواءِ بيت لحم، معلنًا ميلادَ ابن الله إنسانًا، يسوع المسيح، فاديًا للإنسان ومخلّصًا للجنس البشري والعالم، من أجلِ انتصارِ الحقيقةِ والعدالةِ والمحبة.

في ظلمةِ حزنكم، أيّها الأحبّاء، أولادُ المرحومين صبحي ونديمة وعائلاتكم وأنسبائكم، سطع النورُ الإلهي الذي عزّىقلوبكم. فتغلّبتُم على تجربةِ الثأر، واستقرَّ سلامُ المسيح في نفوسكم، وكان إلى جانبكم سيادةُ راعي الأبرشة المطران سمعان عطالله كنجمٍ موجِّه. أنتم تنادون الدولة، ونحنُ معكم، لتمارسَ العدالةَ احترامًا لشريعة الله، سيّدِ الحياةِ والموت، “لا تقتل”، وصَونًا لحياة المواطنين وحقوقِهم وممتلكاتِهم في هذه المنطقة، وحفاظًا على هيبة الدولة والسلطة فيها. فاللهُ يدعو الحكّام “ليرعَوا شؤونَ الناس، ويحكموا بالعدل والإنصاف” (مز 9: 8؛ أش 11: 2-4).وندّدتُم، ونحن معكم، بالنافذين السياسيِّين الذين ربما يغطّون الجريمة ومرتكبيها من أجل مآربَ سياسيّةٍ مذهبيّة، قائلين لهم: أنتم بذلك ترتكبون مرّةً ثانيةً الجريمة وتنتهكون العدالة، وتُجنون على ضمائرِ المجرمين، خانقين صوتَ الله في أعماقِ نفوسكم، وبالتالي أنتم أيضًا تستوجبون المحاكمة. ونناشدُ معكم آل جعفر طالبين منهم، بحكمِ شرف العشيرة أن يسلّموا القتلة، لكي ينفتح أمامهم بابُ المصالحة. فلا مصالحةَ من دون عدالة. ونقولُ للدولة والأجهزة الأمنية: من المعيب جدّاً أن يصبحَ البقاعُ العزيز أرضًا سائبة لقطّاعي الطرق وسالبي أموالِ المواطنين والمعتدين على أرواح الناس. ومن المؤلمِ حقًّا، كما يُشاعُ من أبناء المنطقة، أن بعضًا من المسؤولين عن أمنِ المواطنين يُرتشون من أجل غضِّ النظر عمّا يرتكبُ قطّاعو الطرق. هل أصبحَ البقاعُ العزيز أرضَ العصابات؟

4. لقد رأيتُم، يا أولادَ الشهيدَين الغاليَين صبحي ونديمه، نجمَ حياة الوالدَين ومَثَلهما يسطعُ في سماء عائلتكم ويقودُكم إلى المسيح والعذراء مريم، إلى رحابِ الكنيسة الأمّ والمعلّمة، ويربّيكم على الإيمانِ والأخلاق والقيم المسيحية. لقد أعطياكم الحياة والوجود الكريم بحبٍّ وسخاء، أنتم السبعة، ووفّرا لكم التربيةَ الصالحة والعلم. فشقّيتُم طريقَكم في الحياة وعملتم في مختلفِ الحقول: التجارة العامّة والخدمات الاجتماعية والبناء وهندسة الميكانيك والكمبيوتر. وأسّس بعضُكم عائلاتٍ رضية فرَّحت قلبَ الوالدين. فكنتم لهما بكلِّ واحدٍ وواحدة منكم نجمًا ساطعًا، وقد فرحا بنوره.

5. وكم فرحتُم بنجم والدِكم صبحي الصامدِ بوجه التحديات ومغامرات العمل والزراعة والتجارة في بتدعي والبقاع وجبيل والساحل اللبناني، بالإضافة إلى نسجِ أفضل العلاقات العامة، والقيامِ بخدمات اجتماعية، والالتزامِ بنشاطات سياسية ووطنية جعلته في تواصلٍ بنّاء مع أبناءِ منطقة بعلبك والهرمل وسائر البقاع، والاستبسال مع أهلِ بتدعي والمنطقة في الدفاع بوجه المهاجمين الغزاة أثناءَ الأحداث المشؤومة. فأضحى رجلَ الثقة
والمصداقية، وشكّلَ مرجعيةً يُركنُ إليها. فتركَ لكم اسمًا وإرثًا تفاخرون به، وتواصلونه. وكم فرحتم بنجم والدتكم نديمه في تفانيها وتضحياتها من أجلكم، وكساعدٍ أيمن للوالد في النهوض بالعائلة.

لقد سطعا أمامكم بنورِ اتّحادِهما ومحبّتِهما وتضحياتهما والعمل الدؤوب، وفي الواجباتِ العائلية والاجتماعية والوطنية. إنّهما مدرستُكما الدائمة في الحياة بمختلف مساحاتها.

6. لقد اغتالت يدُ الإجرام نجمَ صبحي ونديمه، مثلما اغتالت يدُ المجرم هيرودس نجومَ أطفال بيت لحم، فكانوا فداءً عن المسيح فادي الإنسان ومخلّصِ العالم. فلا نجم الأطفال انطفأ، وهم بين ملائكةِ السماء يتلألأون بأنوارهم حول العرش الإلهي. ولا نجم المسيح انطفأ، فهو النورُ الدائم لكلِّ إنسان يأتي إلى العالم، ونورُه ساطع من خلال الكنيسةِ الشاهدةِ له، المعلّمة التي تنشرُ نورَ حقيقته، والأمِّ التي تلدُ من حشا المعمودية أبناء وبنات لنور المسيح. ولا نجم صبحي ونديمه انطفأ، فهما يسطعان بين الشهداء حول عرش الحمل المذبوح الممجَّد في السماء.

  7. زرنا صباحَ اليوم، مع راعي الأبرشية المطران سمعان والسَّادةِ المطارنة عائلاتِ الشهداء العسكريّين الثلاثة الذين سقطوا ضحايا بريئةً على يد خاطفيهم في جرود عرسال وهم المرحومون: الرقيب محمد حميّه من طاريا، والرقيب عباس مدلج من بلدة الفيضا، والمعاون علي البزال من البزاليه، وكلُّهم من البقاع العزيز ومنطقة بعلبك الحبيبة.

لقد أردناها زيارةً للتعزية والتضامن، وحملنا إليهم عاطفةَ قداسة البابا فرنسيس الذي كتب، في رسالته الميلادية لأبناء الشَّرق الأوسط، معربًا فيها عن قربِه وتضامنه مع أهلِ الضحايا البريئة، والدين وزوجاتٍ وأطفالاً، ومقدِّمًا لهم كلمةَ التعزيةِ والرجاء.

وقدّرنا كبرَ نفس أهالي هؤلاء الشهداء الذين قدّموا أحبّاءَهم ضحايا ثمينةً، سموها “قرابين” فداءً عن لبنان والجيش وقوى الأمن، وفداءً عن زملائهم العسكريين المخطوفين برجاء تحريرهم. ورفعنا تحيّةً لهؤلاءِ العسكريّين المأسورين في جرود عرسال، وشجّعناهم على الصمودِ في مروءتهم العسكرية بالشرف والوفاء للوطن وشعبه وكيانه، ووجّهنا أيضاً تحيّةً إلى عائلاتهم لكي يتحلّوا بالصبرِ والاتّكال على العنايةِ الإلهية التي تشملهم، هم وأحبّاءَهم المخطوفين، بحبِّ الله وحنانه ورحمته. وها نحنُ نصلّي لكي يكلّلَ اللهُ بالنجاح مساعي الحكومةِ اللبنانية من أجل تحريرِهم، وأن يمسَّ، وهو العادل والرحوم، ضمائرَ الخاطفين، من الدولةِ الإسلامية وجبهة النصرة، ويحرّكَ فيهم المشاعرَ الإنسانية والتقوى ومخافةَ الله. فإن كان يبغي هؤلاءُ الخاطفون مأرباً ما، فليكن بالأحرى الشرفَ وكبرَ النفس وقدسية الحياة البشرية لتحرير هؤلاء المأسورين النبلاء. وإنّنا نردّد كلمةَ المسيح الربِّ في الإنجيل: “لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد، ولا يستطيعون أكثر. بل أقولُ لكم: خافوا الذي يُهلكُ النفسَ والجسد في جهنّم” (متى 10: 28)نعم من الله خافوا.

8. إنّني أتوجّه إليكم، يا أبناءَ بتدعي ومنطقة دير الأحمر وبعلبك الأحبّاء، بأخلصِ التهاني والتمنيات بالأعيادِ الميلادية والسنة الجديدة الطالعة. وأدعوكم للمحافظةِ على وحدتِكم وتضامنكم، بقيادةِ راعي الأبرشية وخدمة كهنتكم والرهبان والراهبات وكل ذوي الارادات الطيبة. ثبِّتوا وجودَكم في هذه المنطقة، منطقتِكم الأصلية والأصيلة. عزِّزوا العيشَ المشترك مع الإخوة المسلمين على قاعدةِ الاحترام المتبادل والتعاون. نمّوا ثقافةَ التنوّع في الوحدة التي بنيناها معاً، اقتلِعوا من صفوفكم ونفوسكم زؤانَ الشّر. إشهدوا لمحبةِ المسيح، وانشروا إنجيلَ السلام، إنجيلَ الحقيقة والمحبة والعدالة والحرية، في هذه الأرضِ الطّيبة التي تعلّمَ منها أجيالُكم المتتالية الصدقَ والعطاءَ والسخاء.

أيّها الإخوةُ والأخواتُ الأعزّاء،

9. لنصلِّ معاً من أجلِ الاستقرار في لبنان وانتخابِ رئيسٍ للجمهورية، اليومَ قبلَ الغد، رئيسٍ يكون على حسبِ قلب الله جديرًا بتحمُّل المسؤولياتِ الخطيرة التي تفرضُها عليه الأوضاعُ اللبنانية الصعبة، والأوضاعُ الإقليمية البالغةُ الخطورة، ولنصلِّ من أجل إنهاءِ الحرب في سوريا والعراق والأراضي المقدّسة عن طريقِ المفاوضات والحوار المسؤول، ومن أجلِ وضع حدٍّ للإرهاب والعنف. ومع قداسة البابا فرنسيسنطالبُ الأسرةَ الدولية بمساعدة النازحين والمهجّرين والمطرودين من بيوتهم في مختلف حاجاتهم، وبتسهيلِ عودتهم الكريمة والآمنة إلى منازلهم وممتلكاتهم، وباحترامِ حقّ المواطنة وسائرِ حقوقهم المدنية. ولنرفعْ عيونَنا إلى نجم المسيح الذي يقودُ دربَنا إلى كلِّ ما هو حقٌّ وخيرٌ وجمال، راجين أن يجعلَ من كلِّ واحد وواحدة منّا نجمًا يسطعُ في مكانه، ويعكسُ نورَ المسيح عزاءً للقلوبِ الحزينة، وبلسمًا للجراحِ الثخينة، وقوّةً للضعفاء وصموداً في الإيمان والرجاء، ومحبّةً في القلوب.

ولنهتفْ من صميمِ القلب: وُلِد المسيح! هللويا!

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

Bechara Boutros El-Rai

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير