فمع تهليل بيت لحم مدينة الأنبياء التي أينع فيها يسوع المسيح ربنا الكلمة المتجسد بسرّ عجيب؛ والتي سبق وأنبأت الكتب بظهوره المُحيي فيها؛ حيث تمت النبؤات وكملت؛ وقد صار بولادته فيها كل الحُسن والبهاء والجمال والحلاوة والخلاص؛ عندما أتى الله ظاهرًا... رب القوات بصوت القرن... النجم والكنوز والسجود والقرابين والرعاة والمجوس والفرح بالملك المولود؛ حيث رُبطت الشياطين وطُرحت خارجًا؛ وانسحقت بميلاد المخلص في أرض مدينة داود؛ التي فيها سُمعت ووُجدت العلامة التي أبصرت الخليقة كلها نورها فتهللت.

لكن الملك هيرودس الأدومي استدعى المجوس سرًا وتحقق من زمان ظهور النجم... الملك الأرضي اضطرب عندما وُلد الملك السماوي؛ اضطرب عندما سمع بعظمة الملك الحق. فالطغاة يتزعزعون أمام القوات الفائقة وأمام انهيار ممالكهم... خطط هيرودس بإحتيال ليخدع المجوس الذين صاروا كارزين له؛ وجازوا في التخوم ليقدموا السجود للملك الآتي لخلاصهم، أتوا من بعيد ليبشروا القريبين... يتقدمهم في ذلك النجمُ حيث كان الصبي مع أمه، وهناك فتحوا كنوزهم وهداياهم؛ كبداءة التقدمة في كنيسة المذود... ثم تركوا طريقهم وتحولوا إلى الطريق حتى لا يلتقوا بهيرودس؛ لم يرتدّوا أو يسلكوا طريقهم القديم كي لا يعودوا إلى هيرودس ثانية.

لكن هيردوس استشاط غضبًا بعد أن أحس أن المجوس قد سخروا منه. فامتلأ حسدًا وفقد كل حس آدمي وأصابه سُعار الدم؛ بينما هو الذي لا يستحق أن يعيش؛ وكان من الأفضل له أن يُعلق في عنقه حجر الرحى ويُلقىَ في البحر... لكنه أرسل ليفتش عن الملك الإلهي؛ وقتل جميع الصبيان في بيت لحم وكل تخومها من ابن سنتين فما دون؛ بحسب الزمان الذي تحقق من المجوس؛ مُريدًا أن يقتل الطفل يسوع في جملتهم، فذبحوا الأطفال على الجبال؛ وسُمعت أصوات البكاء والنواح والعويل في بيت لحم المنسوبة لراحيل (تك ٤٨ : ٧)،(مت ٢ : ١٨)،(رؤ ٦ : ١٠).

جرىَ دمهم في مجرى طريق الخلاص وسط الآلام والبكاء وصراخ وزفير الأمهات المرتفع إلى عنان السماء؛ لأنهم ليسوا بموجودين... وقد صارت شهادتهم البريئة الطاهرة ملازمة لفصح المذود وللميلاد الفصحي؛ ولازالت جماجمهم في غرفة كنيسة المهد ببيت لحم... لم يكن ذبحهم محض صدفة؛ لكنه يمثل جزءًا لا يتجزأ من خدمة حياة المخلص؛ لأنهم قدموا عملاً كرازيًا وشهادة حق بريئة أمام العالم كله؛ يمثِّلون بها كنيسة العهد الجديد وبيعة الأبكار التي حملت البرارة والطهارة ومسكنة الروح... تلك التي لا يطيقها الطغاة وولاة العالم الزمني؛ بل يضطهدونها ويُخرسونها ليكتموا صوت شهادتها.

لقد تم عبور هؤلاء الأطفال وصاروا أبكار يتنعمون بتبعية الحمل الإلهي أينما وُجد في موكب روحي مقدس يتقدمه الحمل القائم وكأنه مذبوح.. هم افتدوه؛ بينما هو فاديهم وفادي كل أحد. هم صاروا باكورة كنيسة الأحياء البسيطة القوية بلا تعقيد؛ والحاملة سمات الحق الواضح والمستقر في الصليب؛ علامتها الجوهرية؛ والذي يُفصح عن طبيعة كيانها؛ كنيسة أبكار مرتفعة إلى فوق إلى السماء حيث مساكن النور في المظال الأبدية.

هيرودس اضطرب والطغاة أمثاله قَتَلة لا يهادنون؛ حتى بالرغم من معرفتهم للنبؤات؛ فقد علم أن من بيت لحم سيخرج المدبر الذي سيرعى شعب الله... في بيت لحم أفراتة الصغرى التي ستكون بين ألوف يهوذا لأن منها يخرج المدبر (ميخا ٥ : ١٢)، لكن هيرودس في تجبُّره رأى أن هذا الطفل غريم له، وبدلاً من أن يذهب ليسجد له هو الآخر سجود العبادة؛ احتال ليدبر له مقتلاً. فذبح هذا السفاح كل أطفال بيت لحم. أما يسوع فقد جاء ليدبر نجاة وخلاص العالم كله. وهو ماسبق وتنبأ به إرميا النبي عن صوت البكاء والنحيب الذي سمع في الرامة...فما حدث من استشهاد هؤلاء الرضع ليس عن عجز قوة اللة عن منعها؛ ولا عن عدم معرفة اللة لها حاشا، وإنما قد سبق وأخبر بها علانية بواسطة أنبيائة، وأعطى راحيل التعزية وأقام بناءًا عجيبًا فائق البهاء عوض النوح والرماد، بإتيان قرن الخلاص .

لقد طلب الأثيم الكنز المخفي فذبح الرُضع الأبرياء... لذلك أمست راحيلُ فاقدة التعزية لرؤيتها ذبح أولاد نسلها ذبحًا جائرًا؛ وموتهم حتفًا في غير أوانه؛ حيث أخذت تنوح عليهم مفجوعة الأحشاء؛ لكنها الآن تسر وإياهم بمعاينتهم في أحضان إبراهيم... وهم الآن شفعاء بدم شهادتهم؛ ومن أجل طلباتهم أمام الحمل الحقيقي سيُنعم الله علينا بالمعونة وبنعمة غفران الخطايا.

السلام والطوبى والفرح لكم يا مَن نلتم مجدًا وإكرامًا ودالة عظيمة عند المخلص... ويا مَن تكلمتم وأنتم لم تقدروا أن تنطقوا بعد؛ بل تكلمتم بدمائكم؛ وتمنطقت أجسادكم بذبيحة أعضائكم الليّنة والغضّة؛ وقد هيأ الله من أفواهكم سُبحًا للملك الصالح؛ تمشون معه على جبل صهيون كيمام بلا عيب؛ وكفراخ النسور المرتفعة إلى العُلا، وليس مَن يشبهكم. وستسيرون أمام الديان في مجيئه الثاني عندما يأتي على السحاب وتنظره كل عين... فكما شهدتم في مجيئه الأول (ميلاده) ستشهدون في مجيئه الثاني (الدينونة)؛ حيث علامة الصليب تضيء في أياديكم، معطين المجد والكرامة والتسبيح للحي إلى أبد الآبدين؛ مبارِكين الملك الآتي بإسم الرب.

لكل نهاية بداية

في نهاية كل عام وقبل أن نودعه لنستقبل الجديد ( 2015 )، لنا وقفة قصيرة مع قراء هذه السطور المتواضعة الكرام، نذكرهم بأن الأعوام تمضي وهي مثقلة ومحملة بكل ما مرّ عليها من أشخاص كانوا فيها ورحلوا عنها قبل أن تنتهي وأستقبلت آخرين سيعطون للحياة رونقها بأسلوبهم الخاص، وأحداث برزت وتركت بصمتها وفعلتها باختلافها! هي حياة ماضية وهي أعوام تتسابق لكي ترحل بما أخذت وأعطت بنسب متفاوتة، تاركة الإنسان في الدنيا يستقي من كل شيءٍ وليس لهُ غير أن يتقبل ويقبل بما كتب له وقُسم.كل الأشياء في الحياة بصورة عامة تبتدئ وتنتهي وهي تاركة فيما بينها فسحة كبيرة شاهدة على كل ما مرّ عليها وبقي فيها! ومثلما لكل حياة بداية ونهاية، ولكل زهرة ظهور وذبول، فأن لكل قصة إنسان يكون بطلها، يؤدي أدوارها ويمارس أحداثها ويخرج بنتيجة منها. لذا يطيب لنا في كل عام وقبل أن تقترب نهايته، أن تكون لنا وقفة على إطلاله، فيها من التأمل الكثير والكثير بما تحتويه. لنا وقفة على عتبات نهاية عام لكي نودعه ونتذكر معه كل ما كان فيه ومن كان، لأخذ العبرة والعظة للقادم ولتقويم ما يحتاج إلى إصلاح.كثير من الناس يعملون حساب لكل ما في الحياة وهذا الصائب ولكن ليس المبالغة فيه! كثيرون يخافون مما ليس له أساس في الواقع أو بالأحرى الغير موجود! يصنعون أسبابه ويعيشون نتائجه … أنهم يستهلكون أنفسهم ويميتون أرواحهم في سبيل إرضاء ما يخطر على المخيلة والقادم من تخمينات موجودة فقط في جعبة من يريد أن تكون حياته مجرد صورة باهتة. الحياة نعم لا تخلو ولكن لا يجوز أن نتعامل معها بأسلوب أن لم نغلبها غلبتنا وأدمتنا! لا يجوز عيش التباين الموجود بين مختلف فئات البشر ولكن بالمستطاع عيش التقارب إلى أقصى حدّ ممكن من أجل حياة بسيطة وفيها معنى أجمل.الحياة ليست بتلك القوة والقساوة ولكن الإنسان حينما يقسى على نفسه يجعلها قاسية وصعبة المزاج والمراس، ومن ثم يراها وكأنها طوفان وأصابه! يعاملها بمزاجية متقلبة ويعاندها ويخاصمها ويعيش التحرر الأعمى منها، بمعنى يريد منها ما ليس منها، بل ما هو صانع فيها حينما يعيش الرغبات والتقلبات!ونعلم بأن الحياة فيها الكثير وهذا بدوره يحمل الأكثر والذي بنفس الوقت يحمل السلبي والإيجابي من الإنسان ذاته، لكن هي لم تخلق بصورة مشوهة وقبيحة ولكن فعل الإنسان بأختلافه هو من يجعل الحياة تبدو كذلك في عين كل قاطنها. هو من يخلق المشكلة وهو من بيده من يجعلها لا تكون، حينما يقلص من حجمها ولا يجعلها تأخذ مداها في حياته وتؤثر على من يحيطه. الحياة باقية وتنتظر من الإنسان الكثير لكي يبقيها بنفس درجة نقائها وجمالها التي خلقت منه، عليه أن يحافظ على روحيتها لكي تبقى نابضة ويشعر هو بطعمها وبقيمتها وبقيمته ودوره المكمل لها.كل شيء في هذا الكون له حقه وبعده ويجب أن نحافظ عليه. هنالك شيءٍ اسمه تكامل وتجديد لابد من تطبيقهما وليس فقط ترديدهما! تجديد للحياة من خلال تجديد الذات ومحاولة صقلها قدر المستطاع بدون انقسام وإزدواجية وفرض وتفضيل. كما للإنسان روحًا كذلك للحياة روحًا لا تحيا بدونه، وهذه هي رسالتنا نحن البشر في الحياة، أن نحافظ على روح الحياة ونتجاوز كل ما يبقي ذواتنا تحتار في زحمتها. حينما نعطي لكل شيء بساطته حتى وإن كان فيه صعوبة، فإننا بهذا نعطيه الفرصة في النصر عليه وجعله يكون في قبضة اليد فينفعنا ويفيدنا. ففي الإنسان قوة جبارة في تخطي كل ما يعترضه ولكن غالبا لا يعرف كيف يستغلها أو كيف يخرجها من أعماقه.  دائما أقول أن للحياة لحنًا رقيقًا ليس كل أذنًا تعرف أن تميزه … أليس كذلك؟! أحيانا كثيرة يدرك الإنسان كم هو بحاجة إلى أن يستمع لصوت الحياة ويعيش لحظات مع ذاته ويستمع لها بعيدًا عن ضجيجها وعن كل ما هو شارد فيها. وجميعنا مطلوب منا أن نفهم أنفسنا لكي نحبها ونفهم الحياة ونحبها في كل وقتًا.أكتب لحياتك قصة جميلة فيها لحنًا فريد خارجًا من أعماقها وله صداه. أجعل نفسك لا تُصارع أي رغبات أو أفكار شريرة بل حاول دوما أن تعيش الاشتياق لها لكي تكون أقرب منها وتحاول أن تكون فيها. حاول أن تتواصل معها لتذوق السلام الداخلي وتعيش الأمان. وكن على يقين بأن كل يوم لهُ تدبيره وكل ساعة لها دقائقها ولحظاتها. أشعر بروعة الحياة وفكر بعمق ذاتك، فهي من تجعلك إنسانًا يعرف ويحس بقدره.