1. هذا هو عنوانُ الرسالة التي وجّهها قداسةُ البابا فرنسيس في يوم السلام العالمي الثامن والأربعين، وكان الطوباوي البابا بولس السادس قد اختار اليوم الأوّل من كانون الثاني منذ ثماني وأربعين سنة، ليكونَ يومَ الاحتفال بالسلام. فيتأمّلَ العالمُ بالسلام، ويصلّيَ من أجل نيله عطيةً ثمينةً من الله، ويلتزم بنشره.
2. فيسعدُنا أن نحتفلَ معكم في هذا الأحد بيومِ السلام العالمي هذا، على صعيد كنيسة لبنان، بدعوةٍ من اللّجنة الأسقفية “عدالة وسلام” بشخص رئيسها المطران سمير مظلوم، والحالي المطران شكرالله نبيل الحاج، وبمشاركةِ أعضائها ومؤسسة Apostolica الملتزمة خدمة الإنجيل والآفاق الجديدة. ونحيّي حضور ممثّلين وممثّلات عن أخوياتناوعلى رأسها المرشد العام الاب سمير بشارة ورئيسها السيد غطاس نخلة. وجمعية مار منصور دي بول – لبنان بشخص رئيستها السيدة ايلاّ بيطار والمرشد الوطني الاب زياد الحداد.
فمن أجل إحلال السلام عندنا وفي العالم، نقيم هذه الذبيحة المقدّسة ونصلّي لكي يحقّقَ المسيحُ الرب، أمير السلام، نوايا قداسة البابا فرنسيس، التي عبّر عنها في رسالته للمناسبة، وهي موضوع تأمّلنا اليوم.
3. ويصادف هذا الأحد عيد العائلة المقدّسة، وهو عيدُ كلّ عائلة مسيحيّة. نصلّي من أجل جميع العائلات لكي تنعمَ بالطمأنينةِ والسلام، فتظلّ العائلة الخليّةَ الأساسية للمجتمع، والمدرسةَ الطبيعية الأولى للتربية على القيم الإنسانية والأخلاقية، والكنيسة البيتية التي تنقلُ الإيمان وتعلّمُ الصلاة. ونصلّي من أجل جميع أولادنا، لكي ينموا على مثال الصبي يسوع بالقامة والحكمة والنعمة (راجع لوقا 2: 52). فكلّ كائن بشري يحتاج إلى النمو بكلّ أبعاد كيانه الإنساني المثلّث: البُعد الجسدي والبُعد التربوي والبُعد الروحي. وهي أبعاد تؤهّله ليحقّق ذاته، ويبني أفضل علاقات مع المجتمع، ويعيش ملء الاتّحاد بالله.
ونصلّي من أجل العائلة الوطنية اللبنانية لكي تحافظ على وحدتها، ومن أجل أن يرسل الله لها رئيساً للجمهورية يضمن الوحدة الوطنية، ويعزّز العيش معًا، مسيحيين ومسلمين، بالمساواة والتعاون، ويعيد للدستور هيبته، وللميثاق الوطني انتعاشه، وللمؤسسات الدستورية حيويتها ولأعمالها وصلاحياتها شرعيّتها.
4. ويطيبُ لي أن أختصرَ رسالةَ قداسة البابا فرنسيس: “لستُم بعد الآن عبيداً، بل أنتُم إخوة”.
يكشف قداسةُ البابا في رسالته عن مشروع الله على البشرية، وهو تحريرُ الإنسان من حالةِ العبودية، وجعلُه في حالةِ الأخوّة. هذه هيالغاية من تجسّد ابن الله. ففي الأساس، خلق اللهُ الإنسانَ الأوّل، آدم وحواء، وباركهما لينموَا ويكثُرا في الأرض، فكانت العائلة المتحدّرة من نسلٍ واحد للأخوّة بين جميع الناس؛ ومن أجل تحصين هذه الأخوّة، خلق الإنسانَ على صورته ومثاله، مفطوراً من طبعه على المحبة والرحمة.
5. لكنّ الإنسانَ رفض رفضاً قاطعاً الدعوة إلى الأخوّة، بأوّل جريمة قتل، عندما قتل قايين أخاه هابيل، حسداً. وإذا بالخطيئة تكبرُ وتتكاثر، وتنشرُ ثقافةَ العبودية، الظاهرةَ في ظلم الناس واستعبادهم واستغلالهم، وفي رفضِ الآخر والاعتداء عليه وسوء معاملته، وفي انتهاكِ كرامتِه وحقوقِه الأساسية، وفي ممارسة اللامساواة.
6. تتلبسُ العبوديةُ اليوم وجوهاً متنوّعة، بالإضافة إلى العبودية الممارسة قديماً والمنظّمة بقوانين. فيعدّد البابا فرنسيس منها خمسة (الفقرة 3):
أ – عبودية العمّال والعاملات والقاصرين في كثير من القطاعات. تنقصُهم في العديد من البلدان قوانين عمل وفقاً للشرع الدولي.
ب – عبودية قاصرين وكبار ضحايا الاتّجار، من أجل استخراج أعضاء من أجسادهم، أو من أجل تجنيدهم، أو من أجل التسوّل، أو من أجل إنتاج مخدِّرات أو بيعها.
ج – عبودية الأشخاص المخطوفين والمحتجزين على يد إرهابيّين، وسوء معاملتهم.
7. ويبيّنُ البابا فرنسيس أسبابَ هذه العبوديات (الفقرة 4)، وهي: رفضُ إنسانية الآخر والتعاملُ معه كسلعة؛ الفقرُ وانعدام الإنماء وفرص العمل؛ الفساد وعبادة صنم المال؛ النزاعات المسلّحة والعنف والإجرام والإرهاب ونتائجها على ضحاياها.
8. فيقول البابا أن لا بدَّ من الالتزام المشترك للتغلّب على العبودية. فثمّة أولاً الكنيسةُ التيبمؤسّساتها التربوية والاجتماعية والاستشفائية، ولا سيّما تلك الخاصّة بالرهبان والراهبات، وبنشاطها الراعوي والرسولي، تعملُ على مساعدة الضحايا وإعادة تأهيلها نفسيّاً واندماجها في المجتمع، وعلى حمايتها.
ثمّ الدول التي واجبها أن تحترم كرامة الشخص البشري في تشريعاتها المختصّة بالهجرة والعمل والتبنّي، وأن تُصدرَ قوانينَ عادلة تحمي حقوقَ الإنسان الأساسية وتُعيدها إلى أصحابها وتمنع الفساد، وتُنزل العقوبات بالمعتدين.
وتشاركُ في هذا الالتزام المنظّماتُ الحكومية الدولية التي تنسّق العمل في محاربة شبكات الإجرام المنظَّم؛ والشركاتُ التي تضمنُ شروط عملٍ لائقة لموظّفيها؛ ومنظّماتُ المجتمع المدني التي تقومُ بمبادرات وعي لإزالة ثقا
فة الاستعباد.
ولا بدَّ من الإشارة إلى عمل الكرسي الرسولي الذي يسمعُ صراخَ ألم ضحايا الاتّجار بالكائنات البشرية، ويكرّرُ نداءاتِه إلى الأسرة الدولية من أجل تضافرِ القوى الساعية إلى وضع حدٍّ لهذه الآفة، وينظّم لقاءاتٍ على نطاق واسع من المشاركين، من أجلالإضاءةعلىظاهرةالاتّجاربالأشخاص،وتنسيقالتعاونعلىمعالجتها (الفقرة 5).
9. أمام هذا الواقع، والكنيسةُ تعلنُ حقيقةَ محبة المسيح في العالم، يدعو البابا فرنسيس لعولمة الأخوّة والتضامن، لأنّ هذه الظاهرة العالمية تتجاوزُ قدرات جماعةٍ واحدة أو وطن. فيوجّه النداء الملحّ إلى كلّ واحدٍ وواحدةٍ منّا، من موقعِ دوره ومسؤولياته، لكي يقومَ بمبادراتِ أخوّة تجاه مَن هم مأسورون في حالة عبودية أو استعباد أو استغلال. ويدعو الجميعَ لمحاربة “هذا الجرح في جسد الإنسانية المعاصرة، هو جرح في جسد المسيح”، كما قال في خطابه إلى المشاركين في المؤتمر الثاني حول الاتّجار بالكائنات البشرية، في 10 نيسان 2014. ويوجّهُ النداءَ أيضاً إلى جميع الناس ذوي الإرادة الحسنة، ولا سيّما مَن هم في أعلى مستويات المسؤولية لكي لا يكونوا مشاركين في هذا الشّر، ولا يحوّلوا انتباهَهم عن آلامِ إخوتهم وأخواتهم في الإنسانية، وقد حُرموا من الحرية والكرامة، بل لكي يلمسوا بشجاعةٍ جسدَ المسيحِ المتألّم (فرح الإنجيل، 24 و270)، والمنظورِ عبر وجوه الكثيرين من الذين يسمّيهم “إخوته الصغار” (متى 25: 40 و45).
10. ويختمُ رسالتَه بالقول: إنّ الله سيسألُ كلَّ واحدٍ منّا، كما سأل قايين بعد قتل أخيه هابيل: “ماذا فعلتَ بأخيك” (تك4: 9-10)؟ ويقول: “إنّ عولمة عدم الاكتراث بأرواح الكثيرين من الإخوة والأخوات تقتضي منّا أن نكونَ صانعي عولمة التضامن والأخوّة، بحيث تكونُ قادرةً على إعطائهم الرجاءَ ليستعيدوا طريقهم بشجاعة، عبر معضلاتِ زمننا، والرؤى الجديدة التي يضعُها الله بين أيدينا” (الفقرة 6).
“ماذا فعلت بأخيك؟” سؤال يوجّهه الله أيضاً إلى كلّ من يغتال أخاه بالكذب والتجنّي والافتراء. او العتداء على كرامته وقدسية حياته. سؤال يطرحه الله عليه لا لإدانته، بل لتحريره من هذه العبودية، ومن الاستعباد للّذين يستعملونه سلعةً لمحاربة الحقيقة وكرامة الغير، لقاء حفنة من المال. وفي المناسبة، أودّ لفت انتباهكم إلى حملة الكذب والتجنّي والافتراء التي تطالنا لأهداف خاصّة من دون رادع ضمير، عبر التقنيات الحديثة، لكي لا تتأثّروا بها. وأدعو الذين يساورهم الشّك من جرّاء ما يقرأون أن يسألونا عن كلّ هذه الأمور. فنحن نقول لهم كلّ الحقيقة، إذا أرادوا حقًّا معرفتها. وهناك مَثَل مأثور: “حبل الكذب قصير”. وأذكّر الجميع بقول الربّ يسوع في الإنجيل: “سمعتُم أنّه قيلَ للأوّلين: لا تقتلْ. فإنّ من يقتل يستوجب القضاء. أمّا أنا فأقول لكم أن من غضب على أخيه يستوجب القضاء. ومن قال لأخيه كلمة احتقار، يستوجب نار جهنّم” (متى5: 21-22).
11. إنّنا نصلّي من أجل أن يتحرّر الجميع من عبودياتهم سواء لذواتهم ومصالحهم، أم لأشخاص أو إيديولوجيات، أم لمال أو سلاح، أم لشغف في السلطة أو لنفوذ على الغير. ونصلّي إلى المسيحِ الرّب، أميرِ السلام، لكي يعمَّ سلامُه كلَّ عالمنا، ولا سيّما لبنان وسوريا والعراق والأراضي المقدّسة، بل كلّ بلدان الشَّرق الأوسط، فيرتفع من قلوب سلامية نشيدُ المجد والتسبيح للآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.