" الآن تطلق ، يا سيّد ، عبدك بسلام ، وفقا لقولك . فقد رأت عيناي خلاصك . الذي أعددته في سبيل الشعوب كلّها ، نورًا يتجلّى للأمم ، ومجدًا لشعبكَ اسرائيل ..... "
كان مجيء يوسف ومريم إلى أورشليم مناسبة لالتقائهم سمعان وحنّة في الهيكل . هنا لا بدّ لنا من التمييز بين المشهد التاريخيّ وبين نشيد سمعان . هذا النشيد ، على غرار الأناشيد الأخرى الواردة في لوقا ، يعود إلى ما نسجته الجماعة البدئيّة . لوقا الإنجيليّ يعطينا وصفا مفيدًا عن وجهي سمعان وحنّة . يلاحظ أوّلا أنّ هذا الوصف يرتبطُ بطابَع خاصّ في إنجيل لوقا ، ألا وهو تعاطفه مع الوسط اليهوديّ في فترة مجيء المسيح ، وتقديره الكبير لتقواه . فعن طريقه نعرف تلك الوجوه الرائعة ، أمثال زكريّا واليصابات وسمعان وحنّة . وهو الذي يصف لنا رعاة بيت لحم . ويشكّل ذلك تباينا ملحوظا بينه وبين بقيّة الإنجيليّين الذين يبرزون معارضة اليهود ليسوع ، ويسقطونها على روايتهم لأحداث الطفولة . ذلك لا يعود فقط إلى أنّ لوقا يتوجّه ، في إنجيله ، إلى اليونانيّين ، بل أيضا إلى موضوعيّته بوصفه مؤرّخـــًا . فالسمات التي يذكرها تصف بأمانة كبيرة ذهنيّة النخبة الروحيّة في الوسط اليهوديّ .
هناكَ سمتان مطروحتان بشأن سمعان ، تتعلّق السمةُ الآولى بمقدار صحّة الصورة التي يعطينا لوقا عنه . فما يلفت الانتباه أنّ هذه الصورة تضعنا في إطار مطابق لما نعرفه عن الوسط اليهوديّ في ذلك الزمن . وبهذا الخصوص ، تقدّم لنا مخطوطات قمران هنا أيضا تأكيدات مدهشة . فسمعان هو يهوديّ ممارس للشريعة ، وهو أيضا ، ينتظر تعزية اسرائيل . وتميّز هاتان السمتان الوسط الذي يعيش من وحي الروحانيّة الصدّوقيّة ، بالإضافة إلى أمانة شديدة في الممارسات وإنتظار حثيث للمسيخ وللزمن الآخر .
عبارة " تعزية إسرائيل " ، قد انتشرت في اليهوديّة المتأخرة ، إبتداء من اشعيا الثاني (62 : 1 ، 66 : 8 ) ، للإشارة إلى مجيء الله في الزمن الآخر . وهذه العبارة أعلاه ، سامية صرفة ، وقد تلقاها لوقا من التقليد . وتجدرُ الملاحظة أنّ لفظة " تعزية " باليونانيّة " باراكليسيس " ، قريبة من لفظة " باراكليتوس " التي يستعملها يوحنا للدلالة على الروح القدس . والمشهدُ المتعلّق بسمعان يتضمّن ثلاثة تلميحات إلى الروح القدس ، ويعرض لنا سمعان ممتلئا من الروح القدس : " كان الروح نازلا عليه " . لم يكن يهوديّا وفيّا فحسب ، إذ أن عطيّة الروح تعني أنه نبيّ . فلوقا يعترف إذا بوجود موهبة النبوة في وسط ذلك الزمن اليهوديّ .
يشهدُ سمعان ما سوف يقوم به يسوع . لقد رأى النبيّ بعينيه ما وعد الربّ به لشعبه ولذلك فقط انتهى انتظاره ويستطيع أن يقول " الآن أطلق ، يا سيّد ، عبدك بسلام .. " فالموت عادة أمرٌ مرهوب في عين الإنسان إلا أنه يتّسم هنا بالسلام ، لأنّ سمعان قد رأى الخلاص الآتي من لدن الله ، هذا الخلاص الذي أخبرَ عنه اشعياء " ويتجلى مجد الربّ ويعاينه كلّ ذي جسد لأنّ فم الربّ قد تكلّم " (أش 40 : 5 ، لوقا 3 : 6) ، والذي تحدّث عنه زكريّا (لوقا 1 : 69 ) . ولا يبقى هذا الخلاص مقصورًا على اسرائيل بل يتعدّاه إلى جميع الأمم ، إنه خلاص شامل .
يرى المفسّرون عامّة ، صعوبة في تفسير نبوءة سمعان هذه ، وهي آخر نبوءة في رواية الطفولة في إنجيل لوقا . إنّ ابنة صهيون ستتألّم ، وفي ذلك إشارة إلى آلام يسوع وإلى تاريخ شعب الله المتمزّق من جرّاء هذا الحدث . إنّ مريم هي في قلب هذا الصراع ، إلاّ أنّ مريم تخرج منه كأم لاسرائيل الجديد (يو 19 : 26 ) " هذه أمّك "، تقومُ في وسط الكنيسة (رسل 1 : 14 ) . إنّ لوقا يشيرُ بشكل واضح ، إلى مكانة مريم وحضورها في قلب الكنيسة ، وهو بذلك يفوق فكر مرقس وبولس في هذا الشأن .
نبوءة سمعان تتعلق بالطفل يسوع ، ومن خلالها يتوقّع سمعان ما ستكون رسالته في إسرائيل . مضمون النبوءة تتألف من أربعة أجزاء : جُعل هذا الطفل لقيام وسقوط كثيرين ، ويكون آية ً ينكرونها ، وسيفا ينفذ ، ويكشف الأفكار عن القلوب . كلّ جزء منها فيه صعوبات خاصّة . يرى الأب فينندي ، إلى الأن السقوط والقيام قد يعنيان إما سقوطا يليه قيام ، وإمّا فصلا بين الذين يسقطون والذين يقومون . قرائنُ النصّ لا تسمحُ بهذا التفسير . إلاّ أننا نستطيع التذكير بإنّ السقوط هذا يذكّرنا بـ" حجر العثرة "! . نرى مع آباء الكنيسة هذه المعاني : إن كان الله الآب قد أرسل ابنه لخلاص العالم (يو 3: 16) خلال علامة الصليب، لكن ليس الكل يقبل هذه العلامة ويتجاوب مع محبَّة الله الفائقة، بل يقاوم البعض الصليب ويتعثَّرون فيه . هذا ومن ناحية أخرى فإنَّ سقوط وقيام الكثيرين يشير إلى سقوط ما هو شرّ في حياتنا لقيام ملكوت الله فينا، فعمل السيِّد المسيح أن يهدم الإنسان القديم ليُقيم الإنسان الجديد؛ يقتلع الشوك ليغرس في داخلنا شجرة الحياة . أمّا موضوع الآية التي ينكرونها فهي واضحة ، فيسوع أنكروه حتى تلاميذه ، والأقربون إليه . ويقول القديس كيرلس الكبير: أما العلامة التي تُقاوم فيقصد بها علامة الصليب ، إذ يقول الحكيم بولس: " لكننا نحن نكرز بالمسيح مصلوبًا عثرة ً لليهود ولليونانيِّين جهالة، وأما عندنا نحن المخلَّصين فهي قوّة الله" (1 كو 1: 18)، فترون أن علامة الصليب عند قوم جهالة وعند آخرين رحمة وحياة. مرة أخرى يرى القديس باسيليوس الكبير أنّ العلامة التي قاومها الهراطقة هي "حقيقة تجسُّد المسيح" ، فالبعض قالوا أنه جسد سماوي منكرين حقيقة التجسُّد وذلك كالغنوسيِّين ، والبعض قال أنه جسد موجود قبل كل الدهور ، وآخرون قالوا أن المسيح بدأ وجوده من مريم ، أي أنكروا لاه وته . ويقول القدّيس العلاّمة أوريجانوس أيضا : كلّ ما تورده الرواية الواضحة عن المخلّص يقاومونه بكلامهم . إنّ العذراء أمّ .. هذه علامة يقاومونها . فالماركيانيون يقاومون هذه العلامة ويؤكّدون أنه لم يكن مولودًا لامرأة . الإبيونيّون يُقاومون هذه العلامة فيقولون إنه ولد لرجل وامرأة بالطريقة نفسها التي نولد بها .
أما نبوءة " السيف " فهو موجّه إلى مريم . يلجأ المفسّرون خاصّة بونوا ولورنتان ، في التفسير إلى المطابقة بين مريم وابنة صهيون ، وبالتالي بين مريم وشعب اسرائيل الذي يجري في داخله هذا التمييز . لكن يبدو أنّ هذا التأويل يعودُ إلى لاهوت لاحق للوقا . المعنى الذي يتبادرُ إلى تلقائيّا إلى الأذهان ، هو أنّ يسوع ، حتى بالنسبة لمريم ، يقوم بتمييز القلب هذا ، مما يُظهر إيمانها . وهذا ما حدث في البشارة . كلها تفاسير نفسيّة قد لا تفي بمعنى النصّ الحقيقيّ .
يقول القديس كيرلس الكبير: يُراد بالسيف ، الألم الشديد الذي لحق بمريم وهي ترى مولودها مصلوبًا ، ولا تعلم بالكليّة أن ابنها أقوى من الموت ، وأنه لا بدّ من قيامته من القبر ، ولا عجب أن جهلت العذراء هذه الحقيقة فقد جهلها أيضًا التلاميذ المقدَّسون ، فلو لم يضع توما يده في جنب المسيح بعد قيامته ، ويجسّ بآثار المسامير في جسم يسوع لما صدق أن سيّده قام بعد الموت. ويقدَّم لنا القديس أمبروسيوس مفهومًا آخر للسيف الذي يجوز في نفس القدِّيسة مريم ، ألا وهو "كلمة الله" التي يليق بنا أن نتقبَّلها في أعماقنا كسيفٍ ذي حدين (عب 4: 12) .
وما أروع ما قاله الشمّاس أفرام السريانيّ : أزالت مريم السيف الذي كان يحرس الفِردوس بسبب حوّاء . " سيجوز السيف " ، أي الرفض . هذا واضحٌ في النصّ اليونانيّ . فأفكار كثير من الناس ستُكشف ، أي أفكار الذين شكّوا .