وبالإمعان في نص قداس اللقان الليتورچي وتعابيره وقراءاته وألحانه وطقسه؛ نرى ذاك الذي بسط النعمة في ذلك اليوم وأظهر لاهوته بالتعميد؛ وهو يكمل كل بر لأجلنا ولأجل خلاصنا… كي يُهدينا إلى ملكوته حيث نهر الحياة الصافي كالبلور؛ المنبثق من عرش الله والحمَل من أجل شفائنا وشفاء الأمم (رؤ ٢٢ : ٢)، وكلما ندخل إلى عمق التقديس الليتورچي ننهل من اليُنبوع الممتد في جمال العبادة التي تربط ما هو إلهي بما هو بَشَري… من الشخص الأعمق إلى الجماعي المتحد بطاقة نهر الحياة؛ حيث تتحد الليتورچيا بالحياة وتتوحد في سينرچية Συνεργεία للروح والكنيسة عبر المناسبة الطقسية.
نتمتع بالآنية الدائمة أو ما يسميه الدارسون (التأوين) بحيث نعيش الآن وهنا عند نهر الأردن أمام فسقية اللقان في لقاء وإلتقاء عميق؛ ويكون حضورنا القداس من أجل التقديس، وهو ما نعترف به كقانون لعضويتنا مع قديسي الكنيسة؛ عندما نردد في ختام القداس (واحد هو الآب القدوس؛ واحد هو الابن القدوس؛ واحد هو الروح القدس) لأن هذا الماء لا يُعطىَ إلا للقديسين (القُدُسات للقديسين)، ونحن بإتحادنا بالقدوس نصير قديسين فيه وبه… لأنه أعطانا نعمة وعطية ومسحة وإستنارة ووشاحًا للخلود ومغطس إعادة الولادة وختم الروح القدس الملوكي الفائق القيمة؛ والتي تأتينا نعمتها مجانية وواحدة للجميع.
في النبوات وقراءات قطماروس اللقان نلمس الواقعية الروحية للحدث؛ خلال خدمة الكلمة والعبادة؛ بحيث يكون احتفالنا حيًا لا تفترق فيه الليتورچية عن الحياة. فقد وضع تقليد طقس القداس حَدَث معمودية الرب في بؤرة العبادة ليكون يُنبوعًا واحدًا لا يتغير، ماؤه حي دائم التجديد؛ نتذوق فيه حلاوة وعذوبة إنجيل الملكوت ورموز العبادة المُعاشة… حاضرة في ذاكرة الكنيسة حضورًا واقعيًا؛ في صورة كلية لأيقونة حدث الظهور الإلهي؛ والأعماق الخفية للتدبير… والتي بها فقط ندخل إلى اللاهوت الذي يظهر بديهيًا في الليتورچيا؛ وفيها فقط يمكن أن نحياه؛ لأنه يعبِّر عما لا يُعبَّر عنه، ويقدم الحدث بزَخَم كبير (صوت الآب بالسرور من السماء – الابن في نهر الأردن – الروح القدس بهيئة منظورة مجسَّمة كحمامة – ثم يوحنا المعمدان السابق الصابغ والشهيد).
وهكذا بنزول المسيح في نهر الأردن وحلول الروح القدس وإعلان صوت الآب؛ المعبَّر عنه كنسيًا بعيد الإبيفانيا Επιφάνια أي ظهور الثالوث القدوس؛ تكون حقيقة تدشين أول معمودية على الأرض على اسم الثالوث… وهنا نقف نقدم عبادتنا وكأننا في برج إلهي نتحصن ونتذكر مرتبتنا كأحرار وكأبناء وكورثة؛ كي لا نحتقر العطايا السماوية؛ بل نصير ذبائح روحية مقدَّمة على المذبح المقدس الناطق السمائي… نتاجر بالوزنة ولا نطمُرها شاكرين الجَميل الإلهي؛ عاملين حسب معطيات ومقتضيات الموهبة التي تقبلناها؛ مكرِّمين نعمة خلود المعمودية التي وضعت وسكبت في باطننا أنهار الماء الحي… لم نعُد أرضًا قفرةً فيما بعد؛ لأن الرب بصليبه فجَّر فينا ينابيع روحه القدوس وروى أرضنا لتفيض بالشهادة له في كل موضع.
مسيحنا هو النهر الأصلي الذي يصبّ في أرضنا أنهارًا هي ثمرة عمله فينا، وكل الأنهار تشهد للنهر الأصلي الحقيقي؛ تسبحه لا بالكلام وإنما بالأعمال وبتصفيق الأيادي؛ لأنه يطلب أفعالنا وأعمالنا وليس أصواتنا فقط… تتدفق فينا نعمته كمياة بلا حدود؛ فيعود ويتطلَّع لكنيسته؛ مُعلنًا أنه يمنحها إمكانيات جديدة على الدوام؛ يتعهدها بالخصب والنماء لتعود مراعيها دسمة مزروعة ومُثمرة؛ ومدنها عامرة مهيئة للسكنى لا كفردوس قديم مفقود بل فردوس حي وميراث إلهي ومياة جارية وأنهار حية وسواقي تُفرّح مدينة الله بالأعمال الصالحة والنافعة… التي تليق بالخراف الناطقة المقدسة المحفوظة في الحظيرة الإلهية – كنيسة الله؛ وبعمل المياة المقدسة التي تطهرنا من الخطايا وتجعلنا حاملين ثمر شركة الطبيعة الإلهية؛ لنحصد نصيب المؤمن (أي نصيب للمؤمن مع غير المؤمن) “٢كو ٦ : ١٥).
ونبدأ في قداس اللقان بعد صلاة الشكر والقراءات الكتابية؛ نذوق المعرفة الكاملة بالعبادة وعُربون كلمة الوعظ التي تصوِّرنا وتُشكِّلنا بحسب المثال الإلهي؛ بتجديد الذهن بالروح الذي يوسِم داخلنا الملامح الإلهية إلى أن تكمُل في نفوسنا بذور التشكُّل بالمسيح وصورة المخلص الذي ضبط الخليقة بعزته؛ ودبر العالم بعنايته؛ وأبدع الخليقة من العناصر الأربعة؛ وكلل دور السنة بالأربعة أزمنة؛ وأخرجنا من العدم إلى الوجود وأنهضنا من سقطاتنا ووهب لنا ملكوته وأحساناته وجعل الخليقة كلها تطيعه وتسبحه وتخافه وتتعبد له… بسط السماء وثبت الأرض وحصن البحر وأفاض الهواء وجدد طبيعتنا بالماء والروح؛ وأغرق الخطية أسفل الماء؛ وأعطانا موهبة المعمودية التي هي بالنسبة لنا (زرع الله فينا) زرعًا لا يفنىَ ليس من مشيئة جسد ولا من مشيئة رجل؛ لكن بكلمة الله الحية الباقية.
ويطلب الكاهن الرحمة (اللهم ارحمنا) رافعًا الصليب بالثلاثة شمعات؛ لأن خلاصنا ورحمتنا مقررة بفعل الثالوث القدوس… نصلي جميعًا طالبين المراحم؛ عشرة بل ومئة كيرياليسون من الله الذي خلقنا واعتمد لأجلنا؛ ليس مقابل ثمن ولا إيفاء لشيء؛ بل كهبة محبة خالصة منه… ممجدين أعماله التي تفوق الحصر ونقبل تجديدنا وتوبتنا وشفاءنا الذي يزودنا هو به بمحبته للبشر التي لا حدود لها؛ وببركة مياة اللقان التي تقدست بالصلاة والرشومات؛ عابرين الأردن الحقيقي بفرح الخلاص والمجد والنور المعطىَ لنا.
شاكرين وحيد الج
نس رئيس كهنتنا الذي رُسم في هذه الرتبة بقرار من الآب، وهو الابن الحبيب الذي سُر به أبوه؛ والذي اشترك في المشي مع الناس ووقف معهم ليعتمد؛ ونزل إلى حقارتنا ووضاعتنا وأخذ شكل العبد ووضع ذاته لأجلنا، فندرك مقاصده وتدبيره الذي بسطه علينا ونسلك حسب تدبير الحياة الجديدة؛ قلبًا لحميًا وروحًا جديدًا.
إن كل مَن يتمعن في خدمة لقان عيد الغطاس يشعر بما هو أعمق من مجرد الطقس؛ ويلمس عطشه الدائم لمياة الحياة المُفاضة للنقاوة ولعمل روح الله الذي يرفّ على وجه غمر حياتنا؛ وكأننا في خلق جديد ويقظة للكون… نحيا عند النبع؛ نترك العتيق والأوحال ونقتني قطرات المياة التي تحمل الروح القدس لكل منا؛ والتي تنضح علينا بالبركة وبها ترتوي الخليقة؛ فلم يعُد هذا الماء ماءًا عاديًا (ساذجًا) لكنه أصبح حاملًا لنعمة القداسة… فليس طقسنا شكلاً أو مجرد ممارسة بلا مضمون؛ لكنه عمل تقديس لطبيعة المياة؛ يجعلها حاملة الحياة الجديدة؛ وهو توظيف للماء على نحو تقديسي.
وروح الله منشئ الخليقة الذي رفّ على وجه الغمر في سفر التكوين يبارك ويقدس المياة؛ ويجعلها بركة ونعمة لتقديس البشر والحجَر؛ فهي أولاً لتقديسنا ثم لبركة بيوتنا؛ كي تصير ببركتها وبسيرتنا بيوت صلاة؛ بيوت طهارة؛ بيوت بركة، كنائس بيتية تشهد للمسيح في العالم إمتدادًا للكنيسة (ككنائس للسيد الرب) نحتفظ فيها بماء اللقان لمنفعتنا الروحية؛ ونأخذه معنا لبيوتنا كي ننقل ما يجري في خدمة اللقان إلى حياتنا وبيوتنا؛ إذ أن عبادتنا يكمل معناها في دوامها وفي عيشها باستمرار بلا إنفصام ولا إنفصال ولا إفتعال؛ حياتنا إمتدادًا لخِدَمنا الطقسية؛ وبيوتنا هياكل مقدسة للسيد تتجه نحو المسيح مشرقها وشمسها… ونحن الساكنون فيها مغروسون بإيمان الله على مجاري المياة؛ نعطي ثمرًا في أوانه وورقنا لا يذبل وكل ما نصنعه ننجح فيه