الزواج والوحدة

الزواج: طريق سريعة الى القداسة (8)

Share this Entry

من الغريب أن نضع هاتين الكلمتين سوية. فالكثيرون يتزوجون بحثًا عن الرفقة والشراكة. منذ أيام كنت أتحدث إلى إحدى تلميذاتي بعد الامتحان ولها من العمر 43 سنة. عاشت سنين عديدة منفصلة عن زوجها، وقد صارحتني أنها قررت العودة إليه لأن “الوحدة قاسية. لا علاقة للحب بهذا الشأن”. ربما المثل الذي أعرضه هو حالة خاصة، ولكن بحث الأشخاص عن الهرب من الوحدة من خلال الزواج ليس أمرًا نادرًا.

يقدم لنا لاكروا، الذي استشهدنا به سابقًا، مساررة فتاة تقول: “أنا بحاجة لأن يلمسني شخص آخر لكي أشعر بأني حية”.

المفارقة أن العديد يلوذون بالزواج هربًا من الوحدة، وللأسف يقعون في وحشة أكبر. وهذه الوحشة هي أكثر مرارة لأنه ما من وهم أمامها لكي يعلل آمالها.

يقول لنا الكتاب المقدس في سفر التكوين (2، 18): “لا يَجبُ أَن يَكونَ الإِنسانُ وَحدَه”. ويفهم البعض هذه الأية بأنها رفض مطلق لشر الوحدة. ولكن الشر ليس الوحدة بل الوحشة. الوحدة خصبة، الوحشة قاتلة. الفرق كبير! الوحشة هي مخالفة لطبيعة الإنسان الذي هو “حيوان اجتماعي” كما يقول أرسطو. الوحدة هي حاجة. نحن بحاجة للوحدة ويجب أن نطلب الوحدة لكي نوحّد كياننا المشرذم بسبب مختلف الاهتمامات. الوحدة حاجة جوهرية لأن ما من أحد يستطيع أن يعيش حياتي مكاني.

الثنائي لا يستطيع أن يعيش مطولاً إذا لم يتم قبول طبيعة الحال البشرية ألا وهي “بُعد الوحدة الوجودي” بحسب ما يسميه لاكروا. المسألة ليست نفسية أو اجتماعية ولا حتى مسألة أطباع. هي مسألة أنطولوجية، روحية وشخصانية. مهما شاركنا آخرًا في وجوده، هناك أبعاد خاصة وفردية لا نستطيع أن نلج فيها من ناحية، ولا نستطيع أن نُشرك فيها الآخرين من ناحية أخرى. هذه المفاجئة (المحزنة بعض الشيء) قام بها المرتد المسيحي العظيم جاك ماريتان (Jacques Maritain) عندما اطلع بعد وفاة زوجته على مذكراتها الخاصة ونظر إلى الصفحات الكثيرة التي تكرسها لليلها الروحي ولوحدتها الروحية. كانت مفاجئة مرة لجاك، ولكنها جزء من الواقع. فبالرغم من شراكتهما الكبيرة (كانا يكتبان الكتب الفلسفية والروحية معًا!) كان هناك بعد لم يكن ممكنًا مشاركته مع الآخر.

فرادتنا تُؤلف إطار وحدتنا (التي أكرر، ليست الوحشة البائسة!). بل أكثر من ذلك: فرادتنا تؤلف وحدتنا وتتطلبها. فنحن بحاجة إلى الولوج إلى صميمنا حيث نلتقي بذواتنا في حضرة الله. هناك مصير فردي لكل منا لا يمكن أن يطابق بالكامل مصير الآخر. وعليه، فالوحدة ليست خبرة سلبية، هي خبرة خصب وغنى نحملها إلى صلب لقائنا بالآخر، بالزوج، بالقريب، بالصديق، بالرفيق..

الوحدة ليست عائقًا أمام الحب، بل هي إحدى مكوناته. فالحب ليس مياعة وذوبان، بل هو هوية ولقاء. الحب لا يتحمل المسافة بل يعانقها، ومن خلالها يعانق الآخر. هذه الوحدة هي لأشبه بتلك المسافة التي مهما داقت وقصرت، تفصل إلى حد ما شفاه الأحبة في القبلة. توق البشر هو إلى الوحدة التي لن تتحقق إلا في الله.

لعل أفضل كلمات للتعبير عما أردت قوله في هذه السطور نجده في حديث جبران خليل جبران عن الزواج:

قد ولدتم معا و ستظلون معا إلى الأبد

و ستكونون معا عندما تبدد أيامكم أجنحة الموت البيضاء أجل وستكونون معا حتى في سكون تذكارات الله

ولكن فليكن بين وجودكم معا فسحات تفصلكم بعضكم عن بعض حتى ترقص أرياح السموات فيما بينكم

احبوا بعضكم بعضا ولكن لا تقيدوا المحبة بالقيود بل لتكن المحبة بحرا متموجا بين شواطئ نفوسكم

ليملأ كل واحد منكم كأس رفيقه ولكن لاتشربوا من كأس واحدة أعطوا من خبزكم كل واحد لرفيقه ولكن لا تأكلوا من الرغيف الواحد

غنوا ارقصوا معا وكونوا فرحين ابدا ولكن فليكن كل منكم على حده

كما أن واتار القيثارة يقوم كل منها وحده ولكنها جميعا تخرج نغما واحدا

ليعط كل منكم قلبه لرفيقه ولكن حذار أن يكون هذا العطاء لأجل الحفظ لأن يد الحياة وحدها تستطيع أن تحتفظ بقلوبكم

قفوا معا ولكن لا يقرب احدكم من الاخر كثيرا لن عمودي الهيكل يقفان منفصلين

و السنديانة والسروة لا تنمو الواحدة منهما في ظل رفيقتها.

Share this Entry

ZENIT Staff

فريق القسم العربي في وكالة زينيت العالمية يعمل في مناطق مختلفة من العالم لكي يوصل لكم صوت الكنيسة ووقع صدى الإنجيل الحي.

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير