عظة البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الراعي عيد القديس شربل –كنيسة مار شربل، دير مار مارون – عنّايا، الأحد 20 تموز 2014

“حينئذ يتلألأ الأبرار كالشمس في ملكوت أبيهم” (متى12: 32)

Share this Entry

1. يؤكِّد لنا الربُّ يسوع في إنجيل اليوم، أنّه زرَعَ كلَّ واحد وواحدة منّا زرعاً جيّداً في حقل الكنيسة والعالم، ويدعونا للمحافظة على جودة هذا الزرع، فلا نتحوّل، بفعل الخطيئة والشّر، إلى زؤان. القدِّيس شربل هو زرعٌ جيّد بامتياز، زرَعَه المسيحُ الربّ في حقل بقاعكفرا والرهبانية اللبنانية المارونية الجليلة. حافظ على هذه الجودة الإلهيّة ونمّاها، حتى بلغ ذروة كماله، فتحقّقت فيه كلمةُ الربّ يسوع: “حينئذٍ يتلألأ الأبرار كالشَّمس في ملكوت أبيهم” (متى12: 32).

2. يسعدنا أن نحتفل معاً بهذه الليتورجيّا الإلهية، احتفاءً بعيد القديس شربل، مع قدس الرئيس العام الأباتي طنوس نعمه، والآباء المدبّرين، ورئيس الدير، والآباء الكهنة الجدد الذين تمّت رسامتهم الكهنوتية، هنا قرب ضريح القديس شربل، منذ أسبوعَين. فإنّا نهنّئهم ونهنّئ الرهبانية اللبنانية المارونية العزيزة بهم وبعيد القديس شربل، راجين لها دوام النموِّ والازدهار بدعوات رهبانية مقدَّسة. كما نهنّئ والدِي الكهنة الجدد وأهلَهم الذين خصّهم المسيحُ الإله بهذا الامتياز، إذ اختار من بين أولادهم هؤلاء، الرّهبان الكهنة، ودعاهم إلى نعمة التكرّس الرهبانيّ، لكي يشهدوا لكمال محبّته، وإلى نعمةِ الكهنوت لكي يخدموا إنجيلَه الخلاصي.

3. ويسعدنا أن نُحيّي مُهنّئين، على رأس المُصلّين، فخامةَ الرئيس العماد ميشال سليمان. لقد اعتدنا على الاحتفال بعيد قديس لبنان بالقرب من ضريحه، هنا في عنّايا، بحضور رئيس الجمهوريّة اللبنانية، وعلى الصلاة معه من أجل وطننا العزيز لبنان. وكنّا نأمل أن نحتفل وإياكم اليوم مع الرئيس الجديد. لكنّنا حُرمناه بسبب عجز المجلس النيابي الحالي عن القيام بأشرف مَهمّة سلّمها إليه الشعبُ اللبناني. وهذا جرحٌ بليغٌ في كرامة هذا الشعب، وفي جسم الوطن. غير أن حضوركم، فخامة الرئيس، يُعزّينا، ويملأ معنويًّا هذا الفراغ. وكنّا نتمنّى استمرارَكم على رأس الدولة، حتّى انتخاب الرئيس الجديد، حفاظًا على الكرامة الوطنيّة. لكنّ مُحبّي الفراغ رفضوا، أيضًا، هذه الأمنية. ولست أدري كم هو كريمٌ في أعينهم وطنٌ مبتورُ الرأس! وكم هي محترمةٌ عندهم سدّةُ الرئاسة، وقد آثروا إقفالَ أبواب القصر الجمهوريّ، بعد ستّ سنوات شرّعتم خلالها أبوابه للأسرتَين العربية والدّوليّة، واستعادت الدولةُ مكانها ومكانتها الكبيرة في الأسرتَين! وكم رغبتم أنتم أن تُسلّموا فيه الوديعة للخلف في 25 أيار الماضي أسوةً بالدول الراقية!

إنّنا نتحمّل، بصبرٍ، هذا الجرح الكبير في كرامتنا الوطنيّة، ونصلّي إلى الله، بشفاعة القديس شربل، الذي شرّف أرضنا ورفع اسم وطننا في الأرض والسماء، لكي يمَسَّ، بروح المسؤوليّة، نوابَ الأمّة، فيتحرّروا من كلّ حسابٍ رخيص، شخصيٍّ أو فئوي، ويتصالحوا مع الوطن والشعب، بل ومع أنفسهم، بانتخاب رئيسٍ جديدٍ للجمهورية يُعيد الاعتبار لسدّة الرئاسة، ويكونُ، بِكبَر شخصيّته وأخلاقيّته وتجرّده، القائدَ الحكيمَ لسفينة الوطن في خضمّ هذا البحر الهائج سياسيًّا واقتصاديًّا وأمنيًّا. إنّنا نفتقد إلى رئيسٍ يستطيع البدء من حيث وصلتم اليه في بناء الدولة والمؤسسات. وهذا ما نرجوه اليوم قبل الغد. ولكن كيف نرجو ذلك وبابُ البرلمان مُقفلٌ خلافًا تمامًا لما ينصُّ عليه الدستور.

4. أراد الربُّ يسوع أن يشرح سرّ ملكوت السماوات بمَثَل القمح والزؤان، فقال: يشبه ملكوت السماوات رجلاً زرع زرعاً في حقله. وبينما الناسُ نيامٌ جاء عدوُّه وزرع بين القمح زؤانًا ومضى” (متى  13: 24-25).

ملكوتُ السماوات هو دخولُ الله في حياة العالم، بالمسيح ابنِ الله المتجسّد، الذي جاء يزرع قمح المؤمنين بالله وبالحقيقة، لكي يؤلِّفوا به ومعه ملكوتَ الله، أي الشركةَ بين الله والناس. ملكوتُ الشركة هذا متمثّلٌ في الكنيسة، المشبَّهة بحقل الله (1 كور3: 9)، حيث يزرع المسيحُ، بواسطة خِدْمتها الكهنوتية، أبناءً للملكوت، هم المؤمنون والمؤمنات المولودون من معمودية الماء والروح.

كلُّ مسيحيٍّ، إكليريكيًّا كانَ أم علمانيًّا، هو زرعٌ جيّدٌ، مدعوٌّ، حيثما وُجد، ليلتزمَ بناءَ ملكوت الله ونموَّه بين الناس، وليطبعَ، بالقيم الإنجيليّة، المجتمعَ والشؤونَ الزمنية، وسائرَ قطاعات الحياة العامة.

5. لكنّ الشرَّ، عدوَّ الكنيسة، المتمثّلَ بروح الشرّ، الشيطان، وبالأشرار، فاعلٌ في التاريخ. “يزرع زؤانًا، أي أشخاصًا وأنظمةً وإيديولوجيات وتيّارات هدّامة، يعرقلون طريقها، يعاكسونها، يضطهدونها، ويضلِّلون أبناءَها وبناتها، ويسلبونهم. هذا الواقع رآه يوحنا الرسول في مشهد المرأةِ (الكنيسة) التي تتمخّضُ لتلد، والتنِّينِ (الشيطان) الجاثمِ أمامها ليبتلع طفلها حين تلده. وإذ لم يستطع، غضب على المرأة وذهب يقاتل باقي نسلها الذين يعملون بوصايا الله، وعندهم شهادةُ يسوع. ووقف على رمل البحر ناصبًا لهم العداء (راجع رؤيا 12: 1-6، 17).

هذه الصورة نشهدها هنا وهناك وهنالك، في مختلف بقاع الأرض؛ ونشهدها، حاليًّا، في العراق العزيز المتألّم بمسيحيّيه ومسلميه. لقد آلمنا بالعمق نداءُ غبطة أخينا البطريرك لويس روفائيل ساكو، بطريرك بابل على الكلدان، الذي يوجهه باسم مسيحيّي الموصل الذين تضظهدهم، علنًا، “الدولةُ الإسلاميّة في العراق والشام“، المعروفة “بداعش“. وقد نقلت معظمُ
وسائلِ الإعلام هذا النداء. إنّنا نعلن تضماننا الكامل، على كلّ صعيد، مع غبطة البطريرك، ومسيحيّي الموصل، ومع كنيسة المسيح في العراق الشقيق. نشدّد شعبَ العراق عامّةً، والمسيحيين خاصّة، بكلمة الرجاء والصمود في أرضهم التي كتبوا عليها تاريخَهم المجيد. ونطالب الأسرةَ الدّوَليّة بحماية هذا الشعب. وكم يؤسفنا حقًّا أن تأتي سياساتٌ هدّامة من الخارج تزرع زؤانَ الشرّ في حقلٍ اختاره اللهُ وأجرى على أرضه مسيرة تاريخ الخلاص. ألا اتّقوا الله، وعودوا إلى نفوسكم، وحرّروها من شرّ مصالحكم السياسيّة والاقتصاديّة الهدّامة. ونتساءل: أليس من سبيلٍ إلى الحوار مع داعش بشأن المسيحيّين الآمنين المخلصين لوطنهم؟ ماذا يقول المسلمون المعتدلون بهذا الشأن؟ وما من صوتٍ يُندّدُ ويستنكر!

6. يعلّمنا الربّ يسوع، في هذا المثل، كيفيّة التصرف في تعايش الأبرار، أبناءِ الملكوت، والأشرار، أبناء الشرير. فينبّه إلى عدمِ استئصال الأشرار بالقوّة، حمايةً للأبرار. فقال: لا تنزِعوا عشبةَ الزؤان لئلا تقتلعوا معها أعشابَ القمح. إنّها حكمةُ التصرّف وفطنةُ التعاطي وفضيلةُ الصبر والاحتمال. وقد علّم الربّ في موضوع آخر تجنّب تفاقم الخلاف مع الخصم في مسيرة الطريق (راجع متى 5: 25-26). كم من الأبرياء يَسقطون كلَّ يوم بسبب اقتلاع العدو والسيطرةِ عليه بالقوةِ والعنف والحرب؟

الشرُّ في حياة البشر أمرٌ طارئٌ. فالإنسان مخلوقٌ أصلاً على صورة الله. ولكن طرأت أحداثٌ وظروفٌ شوّهتْ صورةَ الله فيه، فمال إلى حالة الشر، وأصبح “ابنَ الشرير”. الكنيسةُ، من جهتها، لا تعتبر أحداً شرّاً في المطلق. فتعملُ، روحيًّا وراعويًّا وإنسانيًّا، على إصلاحه، متّكلةً على فعل النعمة الإلهيّة، وعملِ الروح القدس. وهي تأمل تغييرَ حياته حتى آخر لحظة من العمر. ولهذا تتميّز الكنيسة، برعاتها وأبنائها، بالرجاء والغفران والصبر وطول البال. فما أحوجَ هذا الشرقَ إلى الكنيسة لكي تواصلَ فيه الزرعَ الجيّد، زرعَ أبناء الإنجيل، من أجل أن نحلم بربيعٍ عربيٍّ أصيل.

7. كان القديسُ شربل هذا الزرعَ الجيّد أولاً في حقلِ بقاعكفرا والرهبانية.

ففي بقاعكفرا، نما زرعًا جيّدًا بفضل تربيته في البيت الوالدي. فنشأ صالحًا، تقيًّا ومُحبًّا للإماتات والتقشّف. كان ذلك بنتيجة ما دخل قلبَه، في طفولته، من مبادئَ وتقاليدَ وقيمٍ تَعلَّمها من محيطه العائلي، ومن مَثَل خالَيه الراهبَين دانيال وأغسطين المتنسّكَين في الوادي المقدّس.

وفيما كان يرعى المواشي، وهو ابنُ عشرِ سنوات، كان ينصرف إلى الصلاة والتأمّل، سواء في السهل، أم تحت الشجرة، أم في المغارة التي تُسمّى منذ ذلك الحين: “مغارة القديس“. هناك كان يخشع للصلاة أمام أيقونة العذراء.

وفي الرهبانية اللبنانية المارونية ازداد نموًّا، كزرعٍ جيّد. دخلها سنة 1851، وهو بعمر 23 سنة. وعندما لبس ثوبَ الابتداء، هنا في دير مار مارون عنايا، بدّل اسمه من يوسف إلى شربل، مستشفعًا ذاك الشهيد الذي أدّى شهادة الدم سنة 107، وفي نيّته أن يكون شهيدًا للمسيح من نوع آخر. وعندما أبرز النذور الرهبانية الثلاث: الطاعةَ والعفةَ والفقر، اتّخذ قراره بأن يكون هبةً كاملةً لله وللكنيسة، يقدّمها كلَّ يوم ذبيحة حبّ لله. وهكذا لبس، من جديد، بالنذور المقدسة واعتناقِ الفضائل الإنجيلية، ثوبَ المعمودية، وعاش دائمًا في جدّة الحياة، بحسب تعليم القديس بولس الرسول (راجع روما 6: 4).

8. الله الذي يقود خطى أصفيائه، قاد خطى شربل، واضعًا على دربه راهبًا تقيًّا علَّمَه اللاهوتَ وهيّأَه للكهنوت في دير القديسَين قبريانوس ويوستينا في كفيفان، هو الأبُ القديس نعمة الله كسّاب الحرديني. فتعلّم منه حقيقتَين جعلهما ركيزةَ حياته: الأولى، “الشاطر هو يلي بخلّص نفسه”. والثانية، “أن تصبح كاهناً يعني أن تكون مثل المسيح. ولكي تصير كذلك، أمامك طريقٌ واحد هو طريقُ الجلجلة”.

إلتزمَ القديس شربل بخلاص نفسه على طريق الجلجلة، بالصّلاة والتّأمّل، وبالأمانة والتّقشّف في هذا الدّير. ثمّ أكمل هذه المسيرةَ الرّوحيّة العميقة حبيسًا في محبسة القدّيسَين الرسولَين بطرس وبولس على جبل عنايا. وفيها بلَغَ ذروةَ كمال الحبّ ببطولةِ الفضائل الإلهيّة والإنسانيّة، حتى تماهى، بالكليّة، مع المسيح الذّبيح، لفداء البشر. وقد ظهرَ هذا التّماهي عندما رفعَ القربان بين يدَيه، في قدّاسه الأخير، وتلا الصّلاة اللّيتورجيّة: “يا أبا الحقّ، هوذا ابنُك ذبيحةً تُرضيك”. فأصابه فالجٌ، أسقطه أرضًا، وأدخله في غيبوبة النزاع. فإذا بالأب شربل يتماهى بذبيحة حياته مع ذبيحة الابن الإلهيّ، فتصبحُ الذبيحتان ذبيحةً واحدةً مَرضيّةً لدى الآب. وأراد اللهُ، في سرّ تدبيره، أن يُعطيَنا بُرهانًا آخر مرئيًّا لهذا التّماهي، بموت الأب شربل في ليلة ميلاد ابن الله إنسانًا على الأرض، للدّلالة على أنّ موتَه هو ميلادُه في السّماء. وفي الواقع، ظلّ أهالي عنّايا يرَونَ، على مدى أسبوع، ضوءًا مُشعًّا يخرج من قبره، ويلمع على حائط الكنيسة الشّرقي المُحاذي للمقبرة، فتحقّقت كلمةُ الرّبِّ يسوع في الإنجيل:”حينئذٍ يتلألأ الأبرار كالشّمس في ملكوت أبيهم” (متى 12: 32).

9. أيّها القدّيسُ شربل، قدّيسَ لبنان، نحن نؤمن أنّك تحمل، بتشفّعك، وطننا أمام العرش الإلهي، كما كنتَ تحمله بصلاتك من محبستك على أرضنا. نسأ
لُك أن تستمدَّ لنا، من جودة اللّه ورحمته، السّلامَ والإستقرار. إنّنا، من صميم القلب، نصلّي لكي يمَسَّ اللّهُ، بنعمته، ضمائرَ المسؤولين السّياسيين ونوّابَ الأمّة عندنا، لكي يرجعوا إليه بروح التّوبة، ويتحرَّروا من مصالحهم الصّغيرة، ويؤدّوا واجبَهم الدّستوريّ بانتخاب رئيس للجمهوريّة، فتعودَ للمؤسّساتِ حيويّتُها، وتُعطى شرعيّتَها، فتمارسَ صلاحياتها، وتُخرج البلادَ من أزماتها الإقتصاديّة والمعيشية والإجتماعيّة والأمنيّة المميتة.

ونسأل شفاعتك، أيها القدّيس شربل، ونحن نصلّي إلى الله، لكي يُمسك بيده القديرة أرباب الحروب في سوريا والعراق وفلسطين، ويكفَّهم عن القتل والهدم والتهجير، وينتزِعَ من أيديهم السلاحَ البغيض، ومن قلوبهم الحقدَ، ومن نفوسهم روحَ الشر، وينيرَ عقولَهم بحقيقة السلام والعدل وكرامة الحياة البشرية وقدسيتِها. وإنّا، بروحِ البنوّة الكاملة، نرفع معك، بانسجامٍ مع ليتورجيّا السماء، نشيدَ المجد والتسبيح للثالوث المجيد، الآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.

Share this Entry

ZENIT Staff

فريق القسم العربي في وكالة زينيت العالمية يعمل في مناطق مختلفة من العالم لكي يوصل لكم صوت الكنيسة ووقع صدى الإنجيل الحي.

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير