روما، 26 يناير 2007 (ZENIT.org). – تركيا هي دولة متعددة الوجوه. فبالإضافة إلى كونها الجسر الجغرافي بين الشرق والغرب، هي أيضًا نقطة التقاء بين العلمانية والتدين. وقد كانت في الفترة القصيرة الماضية مسرحًا لتقدم كبير في مجال الحوار بين الأديان، وأيضًا في الحوار المسكوني بين الكاثوليك والأرثوذكس، ولكن في الوقت عينه شهدت أعمال عنف ضد حرية الدين والفكر.
وللتعرف على الوضع التركي عن كثب، التقت زينيت بالأب الإيطالي، كلاوديو سانتانجلو، المرسل اللعازري في تركيا. وهو حاليًا في روما لمدة سنة، يتابع دروسًا في مركز الدراسات حول الأديان والثقافات في جامعة الغريغوريانا الحبرية (www.unigre.it) من اجل التعمق في معرفة الإسلام وأساليب الانثقاف والتعايش المسيحي في البيئة الإسلامية.
* * *
ما هو واقع الرسالة اللعازارية في تركيا؟
تمتلك رهبنتا، التي اسمها الرسمي هو رهبنة الرسالة (CM = Congregatio Missionis)، مركزين في اسطنبول تابعين للإقليمين الفرنسي والنمساوي. وقد تم تأسيس كليهما في أواخر القرن التاسع عشر، وكان الهدف منهما تربية الأوروبيين المتواجدين في اسطنبول والعناية بالفقراء. ونشأت الرسالة كمدرسة داخلية، ولكن مع انخفاض عدد المسيحيين في العقود الأخيرة، تم تحويل المركزين إلى مدارس ثانوية. ويشكل المسلمون الآن حوالي 95 % من مجموع الطلاب.
<strong>
يُولّد المشهد التركي الكثير من العجب نظرًا لعلمانية الدولة، رغم أن غالبية السكان هم من المسلمين. كيف ترى هذا الواقع كغربي مقيم في تركيا؟
تركيا دولة ذات دستور وقوانين علمانية. ففي سنة 1924، اعتمد مصطفى كمال أتاتورك النموذج العلماني الفرنسي، وتبنى في الحياة الاجتماعية الوطنية المبادئ الغربية من اجل تحديث البلاد. ولهذا، في تركيا، يمنع على النساء أن تلبس الحجاب في أماكن العمل العامة؛ ويُتبع التقويم الغريغوري؛ ويوم العطلة الأسبوعية هو الأحد بدل الجمعة. وعلى العاملين المسلمين الذين يودون الصلاة في المساجد نهار الجمعة أن يحصلوا على إذن من مؤسساتهم.
ولكن لتركيا وجوه مختلفة، واسطنبول تتميز بضمّها العديد من العوالم المختلفة في طيات شوارعها. فإذا ما تنقلت بين أحياء المدينة لوجدت في بعضها نساءً تلبس الحجاب، وفي أحياء أخرى غير بعيدة، فتيات تتبع الموضة الغربية الأخيرة. في تركيا، التقليد والتحضر يتعايشان.
أين هي تركيا من اليقظة الدينية الإسلامية في العالم؟
عرفت تركيا هي ايضًا يقظة دينية إسلامية في السنوات العشر الأخيرة. ويمكن ملاحظة هذا من خلال حضور أكبر للعامل الديني في الحياة الاجتماعية العامة.
بقي الجيل الوسيط أمينًا لإيديولوجية أتاتورك العلمانية، لذا فهم غالبًا مسلمون لا يقومون بممارسة دقيقة لشرائع الدين الإسلامي.
أما في جيل الشباب، فاليقظة الدينية تعتمد كثيرًا على مرجعيتهم الاجتماعية. فالأغنياء ينظرون إلى الغرب ويتبعون أسلوب العيش الأوروبي، ولا يعيرون اهتمامًا كبيرًا للدين. أما الأشخاص الذين يعيشون في مجتمعات قروية وشبه مغلقة، فغالبًا ما يجدون في المسجد المرجعية الوحيدة لهويتهم.
وقد قال أحدهم، إن تركيا سفينة ينظر طاقمها إلى الغرب ولكنه يجدّف نحو الشرق.
كيف يعيش الشعب التركي العادي المفاوضات لدخول تركيا في الاتحاد الأوروبي؟
حتى العام الماضي، كانت الإحصاءات تشير إلى أن أكثر من 70 بالمائة من الأتراك كانوا يؤيدون انضمام تركيا إلى الاتحاد. ولكن عددهم انخفض بشكل قوي في الفترة الأخيرة، وهم الآن أكثر من النصف بقليل. يخاف الكثير من الأتراك أن يكون هذا الانضمام سببًا لخسارة الهوية التركية والإسلامية.
ويتأثر الرأي العام في هذا الموضوع بالأحداث الجيوسياسية المحيطة، مثل حرب إسرائيل على لبنان في الصيف الماضي. ففي تلك الفترة كانت هناك لافتات ضخمة تغطي بعض الأبنية وتحمل صور الدمار الذي خلّفه الهجوم الإسرائيلي على لبنان مع الكتابة: “إسرائيل أحرقت لبنان، والعالم اكتفى بالتفرج عليها”. فحروب كهذه، يتم اعتبارها من قبل الرأي العام كحرب الغرب المسيحي على الاسلام. ففي العقلية الإسلامية، لا تفريق بين الدين والدولة.
ويخاف الأتراك أن يغتصب الغرب هويتهم المسلمة والتركية، تمامًا كما يخاف الغرب أن يغزوه الأتراك ويقضي على هويته الأوروبية.
ويضاف إلى ذلك أن وسائل الإعلام غالبًا ما تكون منحازة، وتسعى بعضها إلى تغذية الخوف في مخيلة الناس من الغرب الذي يسعى للقضاء على الهوية التركية. فعندما قُتل الأب أندريا سانتورو في 5 فبراير 2006، اعتبرت بعض الجرائد انه اغتيل لأنه كان يحاول أن يجذب المسلمين إلى المسيحية من خلال دفع الأموال لهم، لأنها – باعتبارها – من المستحيل أن يكون قد قُتل من دون سبب.
كيف كانت ردة الفعل المحلية إثر اغتيال الأب سانتورو، ومؤخرًا، مقتل الصحافي هرانت دينك؟
كان لجريمتي الاغتيال اللتين وقعتا في نفس المنطقة (ترابسون) وقعًا مختلفًا في تركيا. فالأب أندريا سانتورو كان غريبًا وغير معروف ولم يكن لجريمة قتله الصدى المدوّي الذي كان بالمقابل لجريمة قتل الصحافي هرانت دينك. فقد تم اعتبار مقتل مؤسس ورئيس تحرير جريدة أغوس كهجوم على الحرية الدينية. وتشكك الرأي العام بسبب هذه الجريمة التي تمت ببرودة تامة، وأقيمت مظاهرات حاشدة استنكارًا للجريمة. p>
أما نحن كمسيحيين فقد عشنا أوقات قلق، خصوصًا بعد أن اغتيل الأب سانتورو، لتخوفنا من احتمال تردي الأوضاع الأمنية وتزعزع الاستقرار في تركيا.
بعد اللقاء التاريخي بين البابا بندكتس السادس عشر والبطريرك المسكوني برثلماوس الأول في الفنار، ما هي برأيك الخطوات التي ينبغي على المسيحيين أن يقوموا بها من أجل إعادة الوحدة بين المسيحيين؟
كان من الضروري أن يزور الأب الأقدس تركيا ليبين علنيًا ما هو الخط الذي تتبعه الكنيسة في مسألة العمل لوحدة الكنائس. وفي الفنار، تم التأكيد على مبادرات أساسية وضرورية من أجل الوصول إلى وحدة المسيحيين.
ولكن من الضروري ألاّ تقتصر المبادرات والخطوات على الصعيد الرسمي، بل يجب أن تدخل إلى أعماق العيش المسيحي بين مختلف الطوائف.
كلعازري أقترح أعمال محبة عملية، فهذه علامات مسكونية معاشة كالالتزام سوية، كجماعات كنسية، من اجل بناء دار للمحبة مشتركة بين الطوائف. فقد تحدث البابا يوحنا بولس الثاني في رسالة “ليكونوا واحدًا” (Ut Unum Sint) عن مسكونية المحبة التي تشكل علامة من أجل غير المسيحيين.
فالمسكونية تتألف أيضًا من تشارك متبادل بغنى التقاليد المختلفة. وقد شاركت في السنة الماضية، برياضة روحية قدمها كاهن ارمني رسولي أخبرنا عن ليتورجية الصوم في طقسه. كانت خبرة مغنية بالفعل، فتحت آفاقنا على أبعاد الليتورجية اللاهوتية والروحية، فتعرفنا كيف أن الليتورجية في الشرق هي مصدر وركيزة الفكر اللاهوتي (Lex orandi statuit legem credendi).
يجب أن يحثنا انخفاض عدد المسيحيين في هذه المناطق من العالم إلى السعي لعمل متكامل سوية.
كيف تفهم دعوتك كمرسل في تركيا؟
إن معنى رسالتي في تركيا هي أن أكون علامة متواضعة لحضور المسيح. هناك قول للقديس منصور مؤسس رهبنتنا يقول فيه: “قوموا بكل ما قام به المسيح: أضرموا النار في العالم”. ليست واجبي أن أرد الناس إلى المسيحية، ولكن مهمتي هي أن أكون حاضرًا حضور محبة المسيح وإصغائه وأن أكون جاهزًا لأعطي جوابًا عن الرجاء الموجود في داخلي (1 بط 3، 15). عندما أحتفل بالافخارستيا أشعر أن المسيح حاضر هناك أيضًا، في تركيا.
من حق الأتراك أيضًا أن يتعرفوا على الوجه الحقيقي ليسوع المسيح. والخبرة برهنت لي أنه إلى جانب الأشخاص الذين لا يهتمون بالدين، هناك أشخاص متعطشة إلى المعرفة. وكم من مرة تحولت دعوة إلى الغذاء إلى لقاء مطول جرى الكلام خلاله عن الإيمان والله، والموت والحياة، والألم والفرح، ومعنى الوجود من وجهة نظر مسيحية.
أنا انتمي إلى رهبنة إرسالية، موهبتها الخاصة هي تبشير الفقراء. والفقراء أنواع عدة: فهناك الفقراء الماديون الذين تنقصهم الحاجيات، وهنالك المشردين والمرضى والمدمنين، ولكن هناك أيضًا فقراء لان حقوقهم منتهكة، وفقراء لأنهم أقليات… ونحن مدعوون لكي نشهد للفقراء عن المحبة: عن محبة قلبية وعملية. وفي تركيا هنالك الفقراء الذين يعيشون العطش إلى الله، العطش إلى المحبة والإصغاء، ونحن المسيحيون مدعوون لنكون شهودًا بالإصغاء والمحبة المجانية.