لقد نشرنا سهوًا في الأيام الماضية القسم 19 من سلسلة المقالات بدل الرقم 18، نشكر القارئ الذي تفضل بلفت انتباهنا إلى الخطأ.
*
في الأساطير العراقيّة القديمة ، قصّة أسمها " جسر دلالي " ، أو الجسر العبّاسي في مدينة زاخو (شمال العراق) . قصّة الفتاة التي يبنيها حماها في الجسر لكي يقف ولا ينهدم . والجسر رمز " البيت " ، والحمو رمز " الأسرة والعشيرة " . (وهنا لا ذكر للزوج ولا ذكر لمعارضته لأبيه) ؛ الحمو يبني كنّته في كــوّة في الجسر لإنّ اللعنة وقعت عليه بعد أن كان قد بنى جسرًا سابقا رائعا ، فيأمر الملك بقطع يده كي لا يبني شيئا أجملَ منه .
هناكَ ، إذن ، من الناحية النفسانيّة ، كبح للمرحلة الفميّة الإمتلاكيّة في تطوّر " العلاقة " ، والجسر هو توجيه للرغبات والعواطف والخوف والشعور بالذنب ، للعبور إلى الآخر . المرأة السجينة مصلوبةٌ مكبوتة ، إنها حال المرأة في بلاد الشرق والنظرة التي تحملها عنها : المرأة خطرٌ مخيف لأبيها ولزوجها ، دورها مقنن محصور في الأمومة والبيت ، والجسر (البيت ) هو مكان التحوّل الذي يبرّر وجودها كمرأة فتعقد عليه آمالها وتضحّي من أجله بحياتها كي يبقى واقفــًا . وما العبورُ على الجسر ، سوى عبور على " جسدها " . لكن ، ما كان يجب أن يصير موضوع فخر وفرح يصبحُ للبكاء والنحيب . إنه الحبّ المنتهي ، حبّ الواجب المرّ ، وحكم الإعدام الذي يصدره الأب . إنه الزواج الذي يجعلُ من بين تقاليدنا أن تبكي الفتاة عند خروجها من البيت ، فتدخل بيت الممنوعات ، وحكم الزوج المطلق .
إنّ هذه القصّة نموذجيّة ، تكشف اللاوعي الفرديّ والجماعيّ ، تكشف الفخّ الذي تشكّله الإزاحة . فالفتاة تقبل طائعة مصيرها ، وكأني بها تفعلُ ذلك للتكفير عن عواطف القلق والشعور بالذنب ، تقبل الموت ولا تقبل أن تسبّبه لحميها . إنها الصورة البشعة التي نحملها عن المجتمع ، إنها إنكشاف حقيقته على مصراعيها : لا يمكن للإنسان أن يعيش من أجل نفسه ، ولا لها ولا فيها فهو يولد سجينا ويموت سجينا في هذا المجتمع .
تبقى القصّة غير منتهية ، معلّقة ( وغريبٌ ، أن أكثر الحكايات والقصص لا خاتمة لها ، بل هناك دائمًا سرّ وراءها ! ) : إن كانت المرأة جسرًا للرجل أو بالعكس ، هل سوف يتمكّنان من العبور ؟ وإن عَبَرا ، نحو أيّ شيء ؟ هل سيكبران وينضجان ويتخلّصان من القلق القادم من الطفولة ؟ هل سيكون لديهما الجرأة على العبور نحو الشاطئ الآخر ، شاطئ البلوغ والنضوج ؟
في الإزاحة غموض لا بدّ منه .. إن هذه القصّة تحملُ مغزى آخر يقول ، إنّ كلّ مشروع يحمل فيه بذرة فشله ، وأن قبول هذا الفشل هو أساس كلّ تقدّم وتطوّر ، وأن الأمور قد تتخذ اتجاها معقدّا . قال أحدهم : " أكبرُ هديّة تقدّمها لكَ الحياة في سن العشرين ، هي فشلٌ في الحبّ ! " .
لنعطي تفسيرًا آخرًا : إنّ المرأة هنا ، تصطدمُ بحميها (أبيها) ، وتلتصقُ بزوجها (الجسر) ، فهو العبّار الذي ينقلها إلى الشاطئ الآخر . القصّة مليئة بالتعاكس المتقابل ، بالتعويض الخفيّ ، وهذا رائع في الأساطير . بالقلق الضاغظ ، وبمشاعر الذنب المرتبطة بصورة الأبّ السلبيّة ، نراها تنقلب على الجسر . إن دخول الفتاة في الجسر ليس سوى إنعكاس لأحلامها عندما كانت طفلة ، هذه الأحلام قد تصل إلى حدّ لا تتمكّن من تحمّله . فكونها مبنيّة في الجسر ، هو علامة على رغبة عارمة بالإلتصاق بزوجها ، وبرغبة شديدة بمساعدته لتتجاوز خوفها القديم وتردّدها في اتخاذ القرار . هذه الإزاحة من البيت إلى الجسر ، تفتحُ آفاقا تفسيريّة جديدة كانت مخفيّة تحت مظاهر القدريّة والحتميّة واليأس التي بدت في القصّة للوهلة الآولى .
كلّ الشعوب تمتلك قصصا مثل هذه ، هي في الواقع قصص تحكي صعوبة الإنتقال من حبّ إلى آخر ، من حبّ الأهل إلى حبّ القرين . في احدى قصص ألف ليلة وليلة ، في قصّة علاء الدين والأميرة بدر البدور ، تختطِف الروح الشريرة (الجنيّة) العريس ليلة زفافه وعلى الزوجين أن يمرّا بمراحل ومغامرات قبل أن يلتقيا من جديد .
يتبع