لذلك لا يتوقف الانقسام عند مجرد خطأ نطقي أو اصطلاحي؛ بل انحرافًا للبنيان عن الأساس الصحيح، وبالرغم من معاناة الكنيسة من الانقسامات؛ لكن الروح القدس الرب المحيي العامل في المتواضعين هو الضامن والساهر والحارس على وحدة الكنيسة، بعد أن أُضيرت من الانقسامات أكثر من اضطهادات الطغاة والمضطهِدين.
ونجتمع هذا العام حول شعار (أعطني لأشرب) كي يسقينا الرب من ينبوعه ويوحدنا معنا في شخصه الإلهي الكريم .ولعل كنيستنا القبطية دائمًا حاضرة بكل تواضع ومحبة ومشاركة جدية منذ أيام مدرسة الإسكندرية اللاهوتية وعلمائها بنتينوس وكليمندس وأوريجانوس وديديموس؛ بداية من تأسيسها وحضور البابا ألكسندروس وأثناسيوس وديسقوروس وكيرلس الكبير؛ وصولاً إلى زيارة البابا تاوضروس الثاني إلى كرسي روما العريق؛ كرسي القديس بطرس الرسول؛ في سعي نحو وحدة الكنيسة الواحدة الوحيدة المقدسة الجامعة الرسولية. لتأتي أول زيارة خارجية لبطريرك الإسكندرية ال ١١٨ نحو المصالحة والوحدة؛ ضمن لقاء رسمي رفيع المستوى على كل الأصعدة؛ والمجتمعون فيه أعلى سلطة روحية للكنيستين في حضرة الروح القدس.
وقد جاء اللقاء بعد عيد القيامة مباشرة؛ لتُستعلن فيه روح القيامة؛ فمِمَّ تخاف الكنائس؟؟! وممن تغلق أبواب فكرها على نفسها؛ بعد أن حطم المسيح العداوة وجعل الاثنين واحدًا؛ فكرًا وقلبًا وروحًا وعبادة. وقد حطم الحجاب الأزلي وصالح الجميع؛ وحطم أبواب الجحيم؛ وفك أسْر الأرواح المسجونة تحت القيود.
فهل بعد ذلك يجوز أن نضع حواجز وأقفالاً واستبعادًا وجروحات؛ ونغلق على أنفسنا أو على غيرنا الأبواب؟! لقد أتانا المسيح ووقف في الوسط وأرانا جراحاته الدامية الواضحة في عذابات أولاده وخطفهم وحرقهم وسلبهم وتكفيرهم وتهجيرهم وإفقارهم واغتصابهم وكل ما هو حادث الآن حولنا... بينما الخميرة حاضرة في العالم من أجل حياة جديدة؛ فلا نور ولا سلام ولا مصالحة إلا في الوحدة المداوية لأنين العالم؛ ذلك العالم الذي يجهل ويتجاهل وجود المسيح وطبيعته؛ وهو لن يذوقه ويعرفه إلا من خلال أعمال الكنيسة وقوة الكنيسة وحضورها الذي تقدمه لهذا العالم النازف.. ليس بكلام؛ لكن بعمل برهان الروح والقوة؛ لتقف قبالة قوى الشيطان في المعركة الفاصلة التي بها يخرِّب العالم (كل مملكة منقسمة على ذاتها تخرب) )مت ١٢ : ٢٥.(
والكنيسة حينما تخدم العالم؛ لا تقف عند حد؛ فالعالم كله هو حقلها المتسع (العالم أجمع) )مر ١٦ : ١٥( في (جميع الأمم) )مر ١٣ : ١٠( هذا العالم الذي تصارع فيه الظلمةُ النورَ؛ والنور ينحسر أمامها؛ فكيف نرضى ونرتاح بأن تعيش الكنائس منفصلة؟! مع أنها تحمل جسد المسيح نفسه بكل جروحه وآلامه ومعاناته وأوجاعه! وكيف يتنازع الجبابرة الأقوياء في الرب؛ وينقسم الأشقاء في الروح على بعضهم ويتباعدون عن بعضهم؟! فعلى من تقع مصالحة العالم؟! وعلى من تقع مسئولية مواجهة الهلاك والإلحاد والشذوذ والأمراض الأخلاقية والضياع والتمزق؟! وعلى من تقع مسئولية مواجهة ظلامية الوحش والانبياء الكذبة؟! على من تقع المبادرة والمسئولية في كل هذا؛ بعد أن أقر أخلص اللاهوتيين وأندرهم بأن الانقسام المريع الذي دام ١٥٠٠ سنة؛ وأورث العالم المسيحي التخاذل والعجز؛ لم يكن له ما يبرره إطلاقًا؟!
لذلك الرجاء معقود على صلاة الوحدة ووحدة الصلاة؛ كي تفرض سلطانها الروحي وتمسح جروح وخلبطة التاريخ؛ فتستريح أحشاء القديسين الذين حفظوا الإيمان وسلموا الوديعة بدموعهم وعرقهم؛ بل وبدمائهم؛ وقد انتقلوا على رجاء ذلك اليوم الذي تأتي فيه الوحدة لتكون بمثابة توبة جماعية للشعوب؛ تأتي بها أوقات الفرج قبل نهاية العالم؛ قبل مجيئه الثاني المخوف المملوء مجدًا؛ وقبل أزمنة رد كل شيء.. فبهذا يعرف الجميع أننا تلاميذ ذاك القدوس والبار مخلص جميع الناس؛ وتلك هي أقوى كرازة للعالم المعاصر دون صوت أو كلام؛ وهي لن تتحقق إلا عندما لا ترى كل كنيسة مصالح خاصتها فقط؛ بل ترى مصير العالم كله.