القراءة الكهنوتيّة للخلق كقطيعة

الأنثروبولوجيا المسيحيّة (4)

Share this Entry

رأينا سابقا ، وكما هو معلومٌ الآن عندكم ، أنّ في سفر التكوين قصّتان للخلقة تختلفان في الوصف الماديّ للعمل الخلاّق . والسببُ كامن في تطوّر المفاهيم بين زمنيهما . فكلّ قصّة تنطلقُ من تصوّر مختلف عن الكون ( تصوّر سبقَ العلوم ) . ورغم الإختلاف في المحتوى ، يبقى اللاهوت متشابهًا .

الفصلُ الأوّل ” كهنوتيّ ” ، كُتب بعد نصوص السقوط والزلّة . أعتمدَ الكاتب عليها ، وتأمّل بها طويلا ، وأستخرجَ منها الزُبدة . فقدّم لنا لوحة : الخلقةُ في سبعة أيّام ، تاركــًا الخلفيّة غائصة في هوّة الظلمات ، مفتتحًا كلّ شيء على شكل نموذج كونيّ ، أو كـ “سلسلة نسب تاريخيّة ” ، فيظهر الله خالقا كما لو كان يفصل ويرتّب وينظّم الزمان والمكان . الخلقُ هنا ، عبارة عن نظام يأخذ شكل ” الحوار ” بين كائنين مختلفين ، فالتركيزُ هنا على أهميّة الأختلاف ، الله يعطي الأشياء خصوصيّتها .

الجمل الآولى تك 1 : 1 – 2 : 4 ، شبيهة بالهجوم . يقول الأب روبير بنديكتي حول عبارة ” وقالَ الله ” : هذه العبارة تتكرّر عشرُ مرّات ، إذ إنّها تُدخِل في النصّ إيقاعًا رتيبًا يقطّع القصّة تقطيعًا شعريّا . ولا يظهرُ هذا الإيقاع – وهو يعبّر عن حركة النصّ – إلاّ إذا قرأناهُ بصوت عال ٍ، وهذا يدلّ على ميزة مهمّة من ميزات النصّ ، وهي أنه يتعلّق برتبة ٍ طقسيّة . “قال الله” ، هي المظهر الوحيد الذي يدلّ على الله : فالخالق لا يتجلّى إلاّ من خلال كلامه .

وقال الله : ” ليكن النور ” ، النور هو الوجه الإيجابيّ والظلامُ هو الوجه السلبيّ . فكأنّ النور هو إنتصارُ الله على العوامل السلبيّة . لكن السؤالُ : لماذا بدأ الله بالنور ؟ من أين أتى النور هذا ولم يكن هناكَ شمسٌ أو قمر أو  نجوم ؟ علمًا أنّ جميعها ظهرت فيما بعد . الكاتب لم يعطينا تسلسلا علميّا أبدًا كما ذكرنا .. هذه أوّل مرّة يتكلّم فيها الله . وقالَ الله : ” ليكن النور ” ، الكلامُ معجزة ، به ندخل الزمن . اليوم الأوّل بداية والسبت نهاية. سندخُل إيقاعَ الحياة : الليل والنهار ، الكلامُ ليسَ حاجة ، بل فصل بين النور والظلام . ونرى يسوع ذاته في الأناجيل يقول دائمًا : جئتُ كالسيف ، لأفصلَ ما بين وبين …. (راجع الأناجيل ) .

يقول القدّيس باسيليوس الكبير عن حالة ما قبل إنشاء العالم :” كان هناكَ شيءٌ ، كما يبدو ، قبل هذا العالم ، نتخيّله بفكرنا ، لكننا نعجَزُ عن وصفه ، ذلك أن معرفتنا ما تزالُ كمعرفة الأطفال . سبقت ولادة العالم حالة محاطة بقوى خارقة أو فائقة لحدود الزمان ، أبديّة ، سرمديّة ، فيها أوجد خالق الكلّ النور العقليّ اللائق بغبطة محبّي الربّ ، والطبائع النطقيّة غير المنظورة ، وكلّ ترتيب  العقليّات التي تفوقُ فكرنا ولا نستطيعُ أن نسمّيها” .

نلاحظ هنا ، أنّ الأرض كانت فوضى ، خربة ، خالية ، غير مرتّبة ومنظّمة . في هذه يقولُ الأب هنري بولاد اليسوعيّ  : يريد كاتب سفر التكوين أن يعبّر عن مدى الفوضى التي كانت موجودة في ذلك الوقت ، وباللهجة البابليّة التي كُتب به النصّ الأصليّ ، أستخدمَ كلمة Toho bohu  ، تعني عدم إنتظام . ويقول : أنا حين أقرأ هذه الآية تك 1 : 2 ، أتصوّر أن كاتب السفر يريدُ أن يقول أنّ الخليقة كانت غير منظّمة ، لإنها كانت بالمصريّ ( لسّة طالعة ساخنة من يد الله ) . الخلقُ سبق التنظيم ، يقولُ القدّيس أمبروسيوس : أنّ تلك الأشياء قد خلقت ، ثمّ نُظّمت ورُتّبت ، فلا يفترض أحدٌ أنها لم تُخلق ولم يكن لها بدءٌ .

” وكانت الأرض خاوية ” تك 1 : 2 .. وخلقَ الله الأرض في اليوم الثالث .. يُعطينا المطران يوسف توما الدومينيكيّ في دراسته حول (لاهوت الخلق ) هذه الشروحات الجميلة ، التي لا بدّ لي من وضعها لكم : إنّ التناقض الظاهر هنا ، يبيّن أنّ غاية الكاتب هي تأكيد وحدة عمل الخلق ، وليس التمييز سوى أسلوب أدبيّ . الآيةُ (2) ، تتكلّم  عن الأرض الخالية الخاوية وعن الغمر وعن المياه ، يقول المطران : كأنّي بها غير مخلوقة من قبل الله ، أو أنها تسبقٌُ الخلقة من الناحية ” الزمنيّة ” أو ” التاريخيّة ” ؛ إنّها حالاتٌ سلبيّة : الفراغ ، الصحراء ، الظلمة ، المياه .. الخلقُ هو ما سيأتي ، وفي لغة الكتاب المقدّس تعني الظلمة : الموت والمصائب ، بعكس الحياة والنور . أمّا المياه ، فهي عنصر خطر يحيطُ بالمسكونة ويهدّدها كما فعل الطوفان . وفي التفسير الحرفيّ للتكوين ، يقول القدّيس أوغطسين: ” في نظر المرء ، أنّ الظلمة هي غياب النور ، ولذلكَ قيل : على وجه الغمر ظلامٌ  . فالمادّة التي رتّبها الله وميّزها من بعدُ بعمله تدعى الأرض الخاوية والغمرُ الذي ينعدمُ فيه النور . ويصفُ القدّيس جيروم ” ماءَ الخلق ” ( روح الله يرفرف على المياه ) : يمثّل سبقيّا ماء المعموديّة . من جهتي أيضا أقول  : إنّ الجنين يسكنُ ويعيش في ماء رحم الأمّ ( المشيمة ) غير منظّم ، ومرتّب ، وملصوقٌ بالحبل السريّ ، يحتاج إلى تحرير وخلاص وإنفصال عن أمّه كي ينوَجِدْ.. ما أعظمَ أعمالكَ يا ربّ !.

أخيرًا وليس آخرًا : هناكَ عنصرٌ آخر في النصّ وهو ” روح الله ” أو ” نفس ” أو ” ريح ” الله . هذا الحضور فوق المياه ، يقولُ لنا : إنّ الله موجودٌ قبل البداية وعنده ” تدبير الخلق ” ، يحومُ ويُرفرف ليحدّد بنفسه ما سيقتطعه لنفسه . هذه الفكرة ، مكتوبةٌ في عقليّة (شعب مختار) يفصله من بين الأمم ، روحُ الله يفصلُ ، يختارُ قبل الخلقة من أجل ” العهد ” والحوار ، ووضع حجر أساس التاريخ.

يتبع ( لنصنع الإنسان على صورتنا ومثالنا ) .

Share this Entry

عدي توما

1

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير